حياته. ولقد سار صيته في الكرم حتى طبق الآفاق، وخلد ذكره بين الناس حتى أيامنا هذه، وما يزال الناس في العراق يضربون به المثل في الكرم والسخاء، فإذا أرادوا ان ينعتوا الرجل الكريم بالبذل وطلاقة الوجه قالوا إنه أبو دلف.
ولقد كان أبو دلف لكرمه وسخاء نفسه محط أنظار الشعراء ومهوى آمالهم في بره وطيب لقائه وطلاقة وجهه. وتروى من قصص الشعراء معه طرائف قد يحمل بعضها على المبالغة والغلو.
من ذلك أن بكر بن النطاح، وهو واحد من الشعراء الذين اختصوا بأبي دلف والتزموه، قال فيه:
يا طالبا للكيمياء وعلمها * مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم لو لم يكن في الأرض إلا درهم * ومدحته لأتاك ذاك الدرهم فيقال أن أبا دلف أعطاه على هذين البيتين عشرة آلاف درهم. فاغفله قليلا ثم دخل عليه، وقد اشترى بتلك الدراهم قرية في نهر الأبلة فانشده:
بك ابتعت في نهر الأبلة قرية * عليها قصير بالرخام مشيد إلى جنبها أخت لها يعرضونها * وعندك مال للهبات عتيد فقال له أبو دلف: تعلم أن نهر الأبلة عظيم وفيه قرى كثيرة، وكل أخت إلى جانبها أخرى، وان فتحت هذا الباب اتسع على الخرق، فاقنع بهذه ونصطلح عليها. فدعا له وانصرف.
ومن طريف ما يرويه مؤرخوه أن رجلا من الموالي يدعى أبا عبد الله أحمد بن أبي فنن كان فقيرا لا يكاد يبلغ رزق عياله: فقالت له زوجه: يا هذا ان الأدب أراه سقط نجمه وطاش سهمه، فاعمد إلى سيفك ورمحك وقوسك، وادخل مع الناس في غزواتهم، فعسى الله أن ينفعك من الغنيمة شيئا، فانشد:
ما لي وما لك قد كلفتني شططا * حمل السلاح وقول الدار عين قف أ من رجال المنايا خلتني رجلا * أمسي وأصبح مشتاقا إلى التلف؟
تمشي المنايا إلى غيري فأكرهها * فكيف أمشي إليها بارز الكتف ظننت أن نزال القرن من خلقي * وأن قلبي في جنبي أبي دلف وتروي في شدة بأسه وقوة جسمه طرائف من الاخبار هي إلى المبالغة أقرب، وفي باب الخيال أدخل، ولكنها تدل على ما كان عليه من قوة خارقة وشجاعة نادرة.
فمن ذلك ما يقال عن جماعة قطعوا الطريق في بعض أعماله فلحقهم فطعن فارسا منهم، فنفذت منه الطعنة حتى وصلت إلى فارس آخر كان وراءه، فنفذ فيه سنان الرمح فقتلهما. وفي ذلك يقول بكر ابن النطاح:
قالوا وينظم فارسين بطعنة * يوم الهياج ولا تراه كليلا لا تعجبوا فلو أن طول قناته * ميل إذا نظم الفوارس ميلا ولقد كان أبو دلف، شأن أمثاله من القادة العرب، ذخيرة تعتدها الخلافة لأيام الشدائد.
ولقد كان لها أبو دلف سيفا صالت به في وجه بابك الخرمي وجالدت به أمثاله من أعدائها الذين كشفوا عن الشرك والكفر يضمرونه في قلوبهم، والاسلام لعق على ألسنتهم لا يجاوز حناجرهم.
ولقد خلد أبو تمام الطائي بلاء أبي دلف في هذه الحروب وتلك الفتن، وكيف صال في وجهها بسيفه وبرأيه، حتى كشف بهما وجه النصر أبلج وضاءها هو ذا يقول في إحدى مدائح أبي دلف:
إن الخليفة والأفشين قد علما * من اشتفى لهما من بابك وشفى في يوم أرشق والهيجاء قد رشفت * من المنية رشقا وابلا قصفا فكان شخصك في أغفالها علما * وكان رأيك في ظلمائها سدفا نصبته دلفيا من كنانته * فأصبحت فوزة العقبى له هدفا ذمرت جمع الهدى فانقض منصلتا * وكان في حلقات الرعب قد رسفا ومر بابك مر الريح منجذبا * محلوليا دمه المعسول لو رشفا حيران يحسب سجف النقع من دهش * طودا يحاذر أن ينقض أو جرفا إلى أن يقول:
أعطى بكلتا يديه حين قيل له * هذا أبو دلف العجلي قد دلفا ولقد أحيا أبو دلف بكرمه وشجاعته وطلاقة وجهه ورجاحة عقله، صورة الفتى العربي، السيد الكريم النجار، لا يتعالى ولا يصعر خده كبرا وخيلاء، الكريم في غير تكلف، السخي في غير إدلال ولا منة، الشجاع المقدام، السديد الرأي الثاقب النظر.
ونحن نقف على ملامح هذه الصورة الرائعة في شعر أبي تمام الطائي، وفي شعر بكر بن النطاح، وفي شعر علي بن جبلة العكوك، وكلهم محص أبا دلف خلاصة شعوره وعصارة فنه الشعري.
وحسب أبي دلف في خلود ذكره وطيب أحدوثته، قول العكوك فيه وهو من أشهر الشعر وأسيره واخلده ذكرا:
إنما الدنيا أبو دلف * بين مغزاه ومحتضره فإذا ولى أبو دلف * ولت الدنيا على أثره كل من في الأرض من عرب * بين باديه إلى حضره مستعير منك مكرمة * يكتسيها يوم مفتخره مير شاة قاسم السبزواري ثم المشهدي.
أصله من سبزوار وأقام مدة في المشهد المقدس الرضوي لأجل تحصيل العلوم العقلية والنقلية ثم عاد إلى سبزوار فأقام بها إلى أن توفي في أواسط المائة الثانية بعد الألف (1).
الشيخ قاسم قسام بن حمود خليل ينتهي نسبه إلى عمران بن شاهين صاحب البطيحة المشهور.
ولد في النجف سنة 1268 وتوفي 1331.
تخرج بكبار فقهاء عصره أمثال الميرزا حسين آل الميرزا خليل والميرزا حسن الشيرازي والسيد كاظم اليزدي وشيخ الشريعة الأصفهاني وتخرج عليه في الفقه والأصول طوائف مختلفة. وقد ترك من المؤلفات كتاب نور