ان مصاحبتنا لشعر ابن الرومي تجعلنا نؤكد انه لا يبتدر خصومه بالهجاء، بل يظل يصبر عليهم حتى لا تبقى للصبر بقية، وهو حذر جدا في علاقته بذوي السلطان، لأنه شديد الاحساس بعوزه وحاجته إلى التكسب بشعره، ومحال ان يقطع معين رزقه لاندفاع أو تهور، بل ما أعجبه حين يصف لنا حذره من ذوي السلطان، ويضع بنفسه حدودا لهجائه في قوله:
لا أقذع السلطان في أيامه * خوفا لسطوته ومر عقابه وإذا الزمان أصابه بصروفه * حاذرت رجعته ووشك مثابه واعد لؤما ان أهم بعضه * إذ فلت الأيام من أنيابه تالله اهجو من هجاه زمانه * حرمت مواثبتيه عند وثابه فليعلم الرؤساء اني راهب * للشر، والمرهوب من أسبابه طب باحكام الهجاء، مبصر * أهل السفاه بزيفه وصوابه حرم الهجاء على امرئ غير امرئ * وقع الهجاء عليه من أضرابه أو طالب قوتا حماه قادر * ظلما حقوق طعامه وشرابه (4) ما احكم هذا الدستور الذي وضعه ابن الرومي لهجائه وما أشد صرامته، انه لا يهجو أصحاب السلطان وهم في أوجهم، خوفا من سطوتهم وعقابهم، فإذا خان الزمان أحدهم عف ابن الرومي عن هجائه خوفا من عودته إلى السلطة مرة أخرى. ولكن هذه العفة لا تقوم على أساس الخوف وحده، بل على أساس من كريم الخلق، فمن اللؤم هجاء انسان تعرض لمحنة. وكم من الشعراء كانوا ينهشون ممدوحيهم السابقين بمجرد تجردهم من السلطة، وكان البحتري مشهورا بذلك، فقد هجا نحو أربعين من ممدوحيه السابقين بعد تجردهم من السلطان. وابن الرومي يطمئن الرؤساء من ناحيته، فهو يرهب الشر، وهو خبير باحكام الهجاء: متى يجوز ومتى لا يجوز، وهو يقصر جواز الهجاء على موضعين: الرد على من يهاجيه من اقرانه، وردع الظالمين الذين يمنعون الفقير حق ما يقتات به. فإذا كان ابن الرومي قد خرج على دستور الهجاء الذي وضعه، فليس من سبب لهذا الخروج الا ان يكون اضطرارا يستفز الشاعر لهذا الهجاء.
وأول من يلقانا من أصحاب المناصب، ممن هجاهم ابن الرومي بعد مدح، إبراهيم بن المدبر الكاتب الذي شغل عدة مناصب هامة، كان من بينها منصب وزير المعتمد. ويترجم له ياقوت فيقول عنه إبراهيم بن محمد بن عبيد الله ابن المدبر، أبو إسحاق الكاتب، الأديب الفاضل، الشاعر الجواد المترسل، صاحب النظم الرائق والنثر الفائق، تولى الولايات الجليلة، ووزر للمعتمد، توفي 279 ه وهو يتقلد ديوان الضياع للمعتضد ببغداد وقد مدحه ابن الرومي بمناسبة هروبه من سجن الزنج سنة 257 ه، ولكن يبدو ان ابن المدبر لم يكن كريما مع ابن الرومي بحيث يمنحه جائزة سخية على مديحه، بل لعله بحكم شاعريته خاض في نقد شعر ابن الرومي، ولهذين السببين استحق الهجاء، ويطالبه ابن الرومي في بعض هجائه برد قصائد مديحه فيه، ولو ممزقة، يقول:
أردد على قراطيسي ممزقة * كيما تكون رؤسا للدساتيج (5) فان ذلك أدنى من تشاغلها * بحفظ مدحك يا علج العلاليج ومن أصحاب المناصب الذين سبق لابن الرومي ان مدحهم ثم عاد فهجاهم، أحمد بن محمد الطائي الذي كان واليا على الكوفة سنة 269 ه، وظل في منصبه حتى قبض عليه سنة 275 ه كما يذكر المسعودي والطبري في احداث تلك السنة. وقد هجاه ابن الرومي لسببين يزكيان خروجه عن دستوره في الهجاء، إما السبب الأول فهو مماطلة الطائي في تحقيق وعد قطعه على نفسه باجراء عطاء على ابن الرومي، والسبب الآخر اختطافه ابن أحد الكتاب واتخاذه رهينة بسبب خوفه من القتل في أثناء وزارة ابن بلبل في واسط، اي حوالي سنة 273 ه، كما نعلم من تتبع حياة ابن بلبل. يقول ابن الرومي في هجائه للطائي مطمئنا وهو في حمى ابن بلبل:
علج ترقى رتبة فرتبة * ولم يكن أهلا لهاتيك الرتب فزل من تلك المراقي زلة * أصبح منها مشفيا على العطب وهكذا، كل ارتقاء في العلا * قريب عهد بارتقاء في الكرب وعلى الرغم من صلة ابن الرومي القوية بأبي الصقر إسماعيل بن بلبل الذي تقلب في عدة مناصب رئيسية، فكان رئيسا لديوان الضياع في سامرا سنة 255 ه، وكان وزيرا في أيام الموفق، وعلى الرغم من مدائح ابن الرومي المطولة فيه في مناسبات مختلفة، وعلى مدى سنوات كثيرة الا انه ناله بهجائه، وكان السبب الواضح في ذلك إغفال ابن بلبل المتعمد لابن الرومي، ومنعه ما يستحق من جوائز على مديحه، فهو يقول له:
ما بال شعري لم توزن مثوبته * وقد قضت منه اوزان وأوزان ويستخدم ابن الرومي قبل ان يتحول تماما إلى هجاء ابن بلبل أسلوبا طريفا في الهجاء يبدؤه بمعنى صريح غاية في الصراحة، وهو ان مديحه لابن بلبل ليس نابعا من محبة شخصية أو اعجاب به، ولكن للحصول على عطائه فحسب، يقول:
أظنك خبرت اني امرؤ * أبر الرجال بشعري احتسابا وذلك أحسن ما في الظنون * إذا ما أخ بأخيه استرابا ول غيرك السائمي ما أرى * تشعبت للظن فيه شعابا فقلت: غبي كسا جهله * نواظره دون شمسي ضبابا وران على قلبه رينه * فليس يريه صوابي صوابا أ ذلك؟ أو قلت: كان امرءا * رأى الجود ذنبا عظيما، فتابا؟
هفا هفوة بالندى، ثم قال * انبت إلى الله فيمن أنابا؟
أ ذلك؟ أو قلت: بل لم يزل * أخا البخل الا عدات كذابا مريغ ثناء بلا نائل * يمني أماني تلقى سرابا إلى كل ذاك تميل النفوس * أخطأ ظن بها أم أصابا وابن الرومي في هذه القصيدة يستخدم أسلوبا غير مباشر في الهجاء، يقوم على الظن والافتراض الذي قد يكون مرده إلى الخطا، ولكنه بعد كل ظن يقول له: أ ذلك وكانه يريد ان ينتزع منه اعترافا بصحة كل ما افترضه فيه من سوء الظن.
وقد ألح ابن الرومي على ادعاء إسماعيل بن بلبل نسبا عربيا في شيبان، وكان ادعاء العروبة بين ذوي الأصول الأعجمية كثيرا منذ القرن الثاني الهجري. يقول ابن الرومي فيه: