ثم استمع إلى تعليقه في حبه للوطن وحنينه إليه وارتباطه الوثيق به:
وحبب أوطان الرجال إليهم * مارب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم * عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا فقد ألفته النفس حتى كأنه * لها جسد، ان بان غودر هالكا مدحه لم يدرك ابن الرومي المعتصم والواثق الا صبيا صغيرا، وقد أدرك سن البلوغ في زمن المتوكل وعاش إلى خلافة المعتضد، ومع ذلك لا ترى في شعره ما يدل على تقربه من الخلفاء والحظوة عند الامراء، ولعل السبب انه لم يدرك منهم غير المستضعفين كالمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، وكلهم قتل أو خلع أو حكم. وقد عاش مدة أربع سنوات في خلافة المعتضد وله فيه بعض المديح. وهو مدح آل وهب، وآل طاهر، وآل المنجم، وآل نوبخت، وبني المدبر، وبني مخلد وغيرهم. وعلى الرغم من كثرة ممدوحيه فإنه لم يحظ من مدائحه بكبير طائل، رغم قوتها وأصالتها. وبينما نرى زملاءه من كبار الشعراء كالبحتري قد فاض كسبهم، نراه وهو في الخمسين من عمره يشكو وطأة الزمان، ونار الحرمان فيقول لمن عاب قريضه:
ابعد ما اقتطعوا الأموال واتخذوا * حدائقا وكروما ذات تعريش يحاسدوني وبيتي بيت مسكنة * قد عشش الفقر فيه أي تعشيش هجاؤه لم يكن ابن الرومي مطبوعا على النفرة من الناس، ولكنه كان فنانا بارعا في ملكة التصوير ولطف التخيل والتوليد وبراعة اللعب بالمعاني والاشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا صوب إليه مصورته الواعية فإذا ذلك الشخص أو ذلك الشئ صورة مهياة في الشعر تهجو نفسها بنفسها وتعرض لنظر مواطن النقص من صفحتها كما تنطبع الاشكال في المرايا المحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لاشكاله ولعب بالمعاني على حساب من يستثيره.
رثاؤه يبرز ابن الرومي بين شعراء الرثاء المجيدين لأبنائهم أمثال أبي ذؤيب الهذلي والقرشي والخنساء وعبد الله بن الأهتم وأبي العتاهية وجرير، وابن عبد ربه، والتهامي وغيرهم. وقد أجاد في مرثية ابنه الأوسط محمد وهي تعد من أرق ما فاضت به عواطف والد على ولد عزيز. وقد استهلها مخاطبا عينيه بقوله:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي * فجودا فقد اودى نظيركما عندي الا قاتل الله المنايا ورميها * من القوم حبات القلوب على عمد توخى حمام الموت أوسط صبيتي * فلله كيف اختار واسطة العقد طواه الردى عني فاضحى مزاره * بعيدا على قرب قريبا على بعد وقد أبدع في وصف الداء الذي أصابه، وما كان من التأثير فيه، شارحا العواطف، الأبوية المتالمة شرحا يحرك أوتار القلوب. فتصور شدة ألمه وروعة تصويره وأصالة فنه حين يقول:
ألح عليه النزف حتى أحاله * إلى صفرة الجادي عن حمرة الورد وظل على الأيدي تساقط نفسه * ويذوي كما يذوي القضيب من الرند واني وان متعت بابني بعده * لذاكره ما حنت النيب في نجد محمد ما شئ توهم سلوة * لقلبي الا زاد قلبي من الوجد ارى أخويك الباقيين كليهما * يكونان للأحزان اورى من الزند إذا لعبا في ملعب لك لذعا * فؤادي بمثل النار عن غير ما قصد وقد أرصد الدهر سهامه لابن الرومي في أهله وأسرته، فراح يرثي الراحلين منهم مراثي مؤثرة، فرثى والديه وامه وخالته وزوجته وأخاه الأكبر... ويبدو ان الأحزان لم تعد تشغله عن رزئه في نفسه، فقد كانت فجيعته في حياته أشد وانكى من فجيعته في موت أهله وبنيه:
رأيت الدهر يجرح ثم يأسو * يوسي أو يعوض أو ينسي أبت نفسي الهلاع لرزء شئ * كفى شجوا لنفسي رزء نفسي وقد يجد أغلبنا راحة وتأسيا في احزان غيره وبلواهم، فتهون عليه بلواه، ولكن ابن الرومي لا يرى ذلك البتة فيقول:
وما راحة المرزوء في رزء غيره * أيحمل عنه بعض ما يتحمل كلا حاملي عب ء الرزية مثقل * وليس معينا مثقل الظهر مثقل ورثى الشهيد يحيى العلوي، وهو حفيد حفيد الإمام علي، بمرثية طويلة فاجعة.
المؤرخون يظلمون ابن الرومي ما رجعت مرة إلى سيرة هذا الشاعر العربي الا اخذني شئ من السخط، أو شئ من الحقد على هؤلاء المؤرخين الذين كتبوا قديما تاريخ الفكر العربي في القرن الثالث الهجري.
فقد رأيت هؤلاء يقتصدون في تاريخ سيرة ابن الرومي اقتصادا يبلغ حد الاجحاف والتقتير، حتى تكاد سيرته لا تتجاوز عندهم بضعة سطور، فإذا تاريخ حياته كلها ينحصر في أن اسمه علي وان أباه العباس بن جريج أو جورجيس، الرومي أصلا، وان امه فارسية، وانه ولد في بغداد عام 221 وانه لم يبرح بغدادا طوال حياته الا مرة إلى بعلبك وبضع مرات إلى سامراء وما جاورها، ثم هم لا ينسون ان يؤكدوا انه كان مولى لاحد أحفاد الخليفة العباسي المنصور وهو عبيد الله بن عيسى بن أبي جعفر المنصور.
ولا يبلغ المؤرخون هذا الحد حتى يقفزوا اثنين وستين سنة عاشها ابن الرومي، لكي يقولوا انه مات عام 283 بقرص مسموم من الحلوى خشكنانجة أطعمه إياه القاسم بن عبيد الله من آل وهب حين كان هذا وزيرا للخليفة المعتضد لكي يتقي شر هجائه.
وعلى رغم هذا الاقتصاد العجيب في تاريخ حياة الشاعر، ترى هؤلاء المؤرخين يفيضون في اخبار تطيره وتشاؤمه، إفاضة تحملك على الظن بان القوم يأتمرون عمدا بهذا الشاعر لكي يمسخوا وجه حياته ويصوروه للأجيال انسانا ضعيف العقل مهدم الأعصاب، خائر الهمة، تستعبده العاطفة، وتستأثر به الشهوات الحسية إلى حد الغلو والشذوذ في النهم للطعام والشراب والنساء.
ومن هنا حكم هؤلاء المؤرخون على ابن الرومي، انه لم يكن أهلا للحظوة لدى الملوك ومنادمتهم، وانه كان من الفاشلين في صناعة