المديح، ثم يتزيدون في تشويهه حتى يكون من المسلم عندهم ان ابن الرومي كان حسودا حقودا لئيم الطبع.
والعجيب في هذا كله، ان أكبر المحدثين، ولا سيما بعض المعاصرين، قد تابعوا أولئك الذين كتبوا قديما تاريخ ابن الرومي على هذا الوجه الممسوخ الشائه، فإذا سيرة هذا الشاعر العبقري، تلقى اليوم إلى طلبة المدارس ممسوخة مشوهة تثير ضحك الساخرين أو تثير إشفاق المشفقين أكثر مما تهدي أذهان الطلبة إلى نواحي العبقرية عنده والى مواطن الجمال الفني في شعره والى اثر الظلم الاجتماعي في توجيه عبقريته وفنه وجهة الألم الجامح والهجاء اللاذع.
ويصح في ظني ان قدامي المؤرخين قد صنعوا هذا كله في سيرة ابن الرومي لأن حقيقة التاريخ كانت عندهم مجرد تاريخ الملوك والامراء والوزراء ومن يدور مدارهم من شعراء وندمان وكتاب وحجاب وجواري وقيان ومغنين، وانما تكبر عندهم أو تصغر قيمة شاعر من الشعراء أو مفكر من المفكرين على قدر ما يكون نصيبه من شرف الحظوة في مجالس الحاكمين.
ويا لعنة التاريخ لشاعر أو مفكر أبعدته طبيعته أو ظروفه عن قصور الملوك وحاشيات الملوك، كما أبعدت ابن الرومي إذا أبت عليه ان يتصرف مع الملوك تصرف ذوي الملق والزلفى إليهم فابغضوه وأهانوه وانكروا شانه، فإذا هو محروم مزري محقور، وإذا المؤرخون يعرفون من سيرة بعض المغنين اضعاف ما يعرفون من سيرة شاعر عظيم كابن الرومي.
ولقد كان من اهمال المؤرخين لتفاصيل حياته، اننا لا نزال نجهد في البحث عن حلقات مفقودة من سيرته فلا نجد منها الا قليلا في شعره فان هؤلاء المؤرخين على كثرة ما رووا من اخبار تطيره وتشاؤمه وشذوذه في التطير والتشاؤم، لم يقولوا لنا كيف عاش ابن الرومي ولا كيف تعلم وتثقف ولا كيف اتفق له ان عاصر الخلفاء، دون ان يتصل بواحد منهم، بمدح أو حظوة أو منادمة أو مجالسة، أو ما يشبه ذلك من الصلات.
ومهما يكن من أمر فان المؤرخين مع اهمالهم شأن هذا الشاعر وظلمهم إياه، فإننا نستطيع باستقصاء أحواله ومراجعة أشعاره ومدارسة جملة الاخبار التي تناثرت في كتب أهل الأدب، من قدامي ومحدثين عن صلاته بالناس وصلات الناس به طوال حياته نستطيع بهذا كله ان نعلم أن ابن الرومي لم يكن كما زعم قدامي المؤرخين وكما يقلدهم بعض مؤرخي الأدب المعاصرين، من أنه ضعيف العقل وانه حسود حقود لئم الطبع، وانه بلغ من التطير والتشاؤم ما يصفون ويبالغون.
وانما نعلم أن ابن الرومي كان انسانا قوي الاحساس بالحياة قوي الحب لها، قوي الرغبة في الاستمتاع بطيباتها ولكنه لا يستطيع بلوع ما يشتهى منها ثم نعلم، إلى هذا، انه رجل نال نصيبا وافرا من ألوان المعرفة والثقافة في عصره، لقد كان على علم واسع بفقه اللغة ومفرداتها وآدابها وفقه الشريعة والفلسفة وعلوم الرياضة والفلك، وكان من ذوي الرأي في المذاهب الفلسفية والعقلية المعروفة يومئذ.
ثم نعلم أنه إلى سعة علمه وعبقرية فنه الشعري، كان قليل موارد العيش، وكان يرى من حقه ان ينال منزلته لدى الخلفاء كغيره من أدباء عصره، بل كان عنده من الاعتداد بنفسه بحيث يرى أنه أحق من غيره في أن ينال أعلى منازل الكرامة في بلاط الخلفاء، وان تحوز يداه أسنى الجوائز والعطايا ليعيش موفروا خلي البال من أمر القوت والجهد في تحصيله ولكنه لم ينل شيئا من هذا الذي يراه حقا له، لان الخلفاء عرفوا به رجلا لا يصلح لمجالسة الملوك ونيل الحظوة عندهم وانشاء المدائح بين أيديهم بما كان من ثقته بنفسه حتى لا يرى حاجة للالتزام بما كان يلتزم به الشعراء والمداحون من التملق والتزلف واصطناع أسبابا الحيلة للوصول إلى مجلس الخليفة وانتزاع عطفه وتقديره، وبما كان في طبعه من الصراحة والوضوح بحيث لا يخفي ما في نفسه نقدا أو عتبا أو ملاما إذا ما اقتضى الامر شيئا من النقد أو العتب أو الملام، وهذا يخالف تقاليد الملوك والامراء والكبراء.
من أجل هذا كله ظل بعيدا عن قصور الملوك والخلفاء، ولكنه كان على صلة بعدد من الامراء والوزراء والكتاب والندماء، كامراء آل طاهر وآل وهب وكنيس بن أبي صاعد وأبي سهل النوبختي وابن ثوابة الكاتب وإسماعيل بن بليل وعلي بن يحيى القديم غير أن هؤلاء جميعا، كيف يقدمون شاعرا جفته قصور الخلفاء، وهم إذا قدموه اشبعوه منه وأذى أكثر مما اعطوه من حقه وقدره.
وقد كان ابن الرومي لا يحتمل المن والأذى من هؤلاء، ولا يحتمل ان يبخسوه حقه وقدره فلا يكاد يمدح أحدهم، وينتقص قدره أو يبخس حقه، حتى يتبع المدح بالعتاب والملام، وقد يتبعه بالهجاء اقسى الهجاء.
كان ابن الرومي محبا للحياة قوي الاحساس فيها فأحس لذعة الحرمان وأبى ان يصانع الملوك كما كانوا يريدون فنبذوه واحتقروه، وتبعهم المؤرخون. وقلد هؤلاء من جاء بعدهم من كتاب التاريخ حتى يومنا هذا فإذا ابن الرومي مظلوم في حياته وفي مماته معا، وليس يكفيه انصافا ان يعرف الناقدون مذاهبه الفنية وكفى. بل الإنصاف الحق لابن الرومي انه كان في الفكر العربي من اعلام المفكرين والواعين الأحرار الذين اضطهدهم ذوو السلطان لوعيهم مصادر الظلم الاجتماعي ولتعبيرهم عن هذا الظلم بمختلف ألوان التعبير، بل بأروع ما يعرف الحرف العربي كيف يعبر ويصور ويلهم ويوحي للنفوس بالصور تتلاحق ملامحها وتتكامل حتى تكون منها بدعة الفن وبدعة الفكر، وبدعة الحقد الإنساني النبيل الخير الذي ينبع من أقدس ينابيع الحب والخير. لقد حقد فعلا وامتلأ قلبه حقدا شديدا عنيفا غير أن حقده هذا ما كان طبعا لئيما فيه كما يشاء أن يقول المؤرخون، وانما كان حقدا يصدر عن احساسه القوي بالحياة، وعن حبه العميق للحياة وعن شوقه العارم لكل طيبات الحياة ومشتهياتها، كان يحقد على الحرمان وحده على الذين حرموه طيبات الحياة فقد كان رجلا محروما وكان شعوره بالحرمان عنيفا على نفسه مرهقا شديد الارهاق لعصبه وحسه فقد حرمه نظام مجتمعه الفاسد ان يستمتع بابسط حقوقه الإنسانية فكيف إذن لا ينقم على من يستمتعون بأطايب الحياة دونه ودون الفقراء والمعوزين من سائر فئات الشعب مع أنه كان يرى أولئك أقل منه كفاءة عقل وعلم وانه أعظم منهم في مواهب الفن العبقري.
كيف لا يحقد ابن الرومي على ذوي السلطان وعلى كل مستأثر