الكهولة والشيخوخة. الا ما يندب فيه شبابه ويتبرم بسنه. فقصائده التي نظمت من العشرين إلى الستين طبقة واحدة من هذه الناحية لا تستطيع ان تتحقق فيها مزية سن على سن ولا فترة على فترة. وتعليل ذلك صعب في الشعراء المطبوعين غير ابن الرومي، إما هو فلا صعوبة في تعليل هذا الاستواء في تركيبه والتشابه في روحه ونسجه لأنه ينسج من غزل واحد وبضاعة واحدة، وهي الشعور الجديد أو شعور الطفولة الفتية التي لازمته في حياته من المبدأ إلى النهاية. فلم يتغير فيه الا القليل بعد ما درس نصيبه من اللغة والعلم واستوفى مادته من الفن والصياغة، وكان الشجرة نضجت مبكرة وبلغت تمامها ورسخت تربتها، فثمرتها اليوم كثمرتها بعد سنوات عشر أو عشرين وثلاثين، ولا عيب في ذلك الا أن تكون الثمرة شرا لا خير فيه. أما إذا كانت ثمرة جنينة كأطيب الثمر في النظرة والحلاوة فالتبكير إذن أصلح من التأخير والبقاء على طبقة واحدة أحب وأكمل من التغيير.
فالكلمة الأولى والأخيرة في هذا العبقري النادر انه كان شاعرا في جميع حياته، حيا في جميع شعره وان الشعر كان لأناس غيره كساء عيد وحلة موسم ولكنه كان له كساء كل يوم وساعة بل كان له جسما لا تكون بغيره حياة. انتهى مقال الدكتور مروة.
تشيعه يقول الأستاذ العقاد:
كان ابن الرومي شيعيا ومعتزليا. ثم يقول: وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل.
ويستشهد الأستاذ العقاد على ذلك بقوله في العباس بن القاشي ويناشده صلة المذهب:
مقالة العدل والتوحيد تجمعنا دون المضاهين من ثنى ومن جحدا ثم يقول العقاد:
فواضح من كلامه هذا انه معتزلي وانه من أهل العدل والتوحيد وهذا الاسم الذي تسمى به القدرية لانهم ينسبون العدل إلى الله فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضي له وسيق له، ولأنهم يوحدون الله فيقولون ان القرآن من خلقه وليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم. وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين يعتقدون القدر واولى بان ينسبوا إليه انما نحن أهل العدل والتوحيد لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.
هذا ما قاله الأستاذ العقاد. ولكن الواقع ان موافقة المعتزلة للشيعة في بعض الأقوال، كالقول بالاختيار وخلق القرآن والحسن والقبح العقليين جعلت بعض الباحثين ينسبون كثيرا من رجال الشيعة إلى الاعتزال حتى لقد قال بعضهم عن السيد المرتضى والصاحب بن عباد انهما معتزليان وهما من هما في التشيع.
كما قال آخرون عن عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي انه شيعي، وهو مثل ما قاله الأستاذ العقاد عن ابن الرومي الشيعي، وأين الاعتزال من التشيع، فإذا اتفقا في بعض الأشياء فقد اختلفا في أشياء وأشياء. فان ابن الرومي شيعي، ولا يمكن ان يكون الشيعي معتزليا ولا المعتزلي شيعيا.
وإذا قال ابن الرومي بالعدل والتوحيد والاختيار وخلق القرآن فلان الشيعة والمعتزلة متفقان في هذا على حين انهما مختلفتان في غير هذا.
ابن الرومي في هجائه وقال الدكتور محمد مصطفى هدارة:
لم ينل شاعر من اعراض مؤرخي الأدب مثل ما لقيه ابن الرومي، بسبب كثرة خصوماته في عصره وإفراطه في الهجاء حتى صدق ما قاله فيه أحد معاصريه ان لسانه أطول من عقله. والمتصفح لديوان ابن الرومي سواء ما طبع منه، أو الجزء الذي لا يزال مخطوطا، يرى الهجاء غالبا على كل ما عداه من فنون الشعر فيما عدا المديح، حتى ليرسخ في النفس ان هذا الشاعر عدو للناس والمجتمع، بعيد عن الاتزان وضبط النفس، وهما سمة الإنسان والعاقل، قريب من معاداة الإنسانية بمعناها العام، بل لقد يحس كذلك انه اتخذ الهجاء صناعة بحكم علله النفسية وما يشعر به من نقص وحقد وحسد وغيرة ازاء الناس والمجتمع.
وكثيرا ما كان الهجاؤون يعانون مثل هذه العلل والنقائص التي تدفعهم إلى التعويض بسلاطة اللسان، والتهجم على الاعراض، وتخويف من عداهم من البشر المسالمين.
ولكننا ننفي ذلك كله عن ابن الرومي من واقع اخباره وأشعاره، ونرى أنه في كل أهاجيه برغم كثرتها وفحشها وسلاطتها كان الضحية المعتدى عليه، وان هجاءه كان سلاحا للدفاع عن النفس، في عصر لا يبر الضعفاء، ولا يرحم المساكين، وان هذا السلاح لم يكن ابن الرومي يشرعه الا في حالة الاضطرار والاستفزاز.
كان ابن الرومي بطبعه مصافيا للناس يألفهم ويألفونه، ويبرهم ويبرونه، ولكنه كان فقيرا يكتسب بشعره، شديد الحساسية في احتفال بكرامة نفسه وكرامة شعره على السواء، وكان فيمن صادفهم ابن الرومي في حياته الغني الذي يريد استعباده بماله، والعابث الذي يلمح فيه مواطن الضعف فيلح عليها بعبثه، والغبي الذي يجهل قيمة شعره، وأمثال هؤلاء كانوا يستفزون ابن الرومي فيضطر إلى هجائهم، ويحركون فيه طبعه الحاد، أو طبعه المقاتل الذي لا يستسلم، ولا يستكين لمهاجمة.
وقد يغفر بعض الباحثين هجاء ابن الرومي للكثرة الهائلة من شعراء عصره وكتابه وعلمائه من أمثال البحتري، والناجم، والناشئ، والمبرد، ونفطويه، والأخفش، وقد يتسامحون في هجاء ابن الرومي للمغنين والمغنيات في أيامه، ولكنهم يقفون من ابن الرومي موقف التشكك والاتهام بالنسبة لهجائه من سبق له مدحهم من ذوي المناصب العامة، هؤلاء الذين كان يتوجه إليهم بمديحه، ليستعين بجوائزهم على مواصلة الحياة، فهل كان ابن الرومي انسانا غير سوي الطبيعة، مرائيا منافقا عديم الوفاء؟ وأيهما كان أصدق: مديحه السابق أم هجاؤه اللاحق؟ وإذا كان مديحه نفاقا في سبيل لقمة الخبز، فما جدواه من وراء هجاء ذوي المناصب، وبعضهم كان لا يزال في منصبه؟ هل نجد في شخصية ابن الرومي تهورا واندفاعا في سبيل الهجاء، بحيث ينكب عن ذكر العواقب جانبا؟