عجبت من معشر بعقوتنا * باتوا نبيطا، وأصبحوا عربا مثل أبي الصقر، ان فيه وفي * دعواه شيبان آية عجبا بيناه علجا على جبلته * إذ مسه الكيمياء، فانقلبا عربه جده السعيد كما * حول زرنيخ جده ذهبا يا عربيا، آباؤه نبط * يا نبعة كان أصلها غربا كم لك من والد ووالدة * لو غرسا الشوك أثمر العنبا بل لو يهزان هزة نثرت * من رأس هذا وهذه رطبا لم يعرفا خيمة، ولا وتدا * ولا عمودا لها، ولا طنبا ولم يكن ابن الرومي في هجائه إسماعيل بن بلبل متجنيا، بل إن هذا الرجل قد أذله بحيث جعله يعري مشاعره بصورة كاملة، فإذا بنا امام انسان مظلوم قهره الظلم، يبيع عصارة فكره ولا يجد من يشتري، بل إن الممدوحين يحاولون إذلاله وإساءة معاملته، فهو يقول لإسماعيل بن بلبل هذا:
كم نسام الأذى، كانا كلاب * كم، إلى كم يكون هذا العقاب كلما جئت قاصدا لسلام * ردني عن لقائك البواب ما كذا يفعل الكرام، ولا تر * رضي بهذا في مثلي الآداب انا حر، وأنت من سادة الأحرار * أهل الحجا المصاص اللباب وقبيح بعد الطلاقة والبشر * بذي المجد نبوة واحتجاب وجميل من ابن الرومي ان يذكر ممدوحه بأنه حر مثله، وليس عبدا يقرع، أو كلبا يطرد. وهذا الموقف اللا أخلاقي من جانب إسماعيل بن بلبل جعل هجاء ابن الرومي ذا نفحة انسانية، على الرغم من تعبيره عن ذاتيته فهو يقول:
حرمت في سني وفي ميعتي * قراي من دنيا تضيفتها لهفي على الدنيا، وهل لهفة * تنصف منها ان تلهفتها؟
كم آهة قد تأوهتها * فيها، ومن أف تأففتها أغدو، ولا حال تسفعتها * فيها، ولا حال تردفتها قبحا لها، قبحا، على انها * أقبح شئ حين كشفتها تعسفتني ان رأتني امرءا * لم ترني قط تعسفتها كددت النفس، من بعد ما * رفهتها قدما وعففتها لا طالبا رزقا سوى مسكة * ولو تعدت ذاك عنفتها طالبت ما يمسكها مجملا * فطفت في الأرض وطوفتها وناكد الجد، فمنيتها * وماطل الحظ، فسوفتها ما أشد احساس ابن الرومي بعذابه في هذه الدنيا التي لم يرد منها الا ما يمسك عليه حياته، ومع ذلك يأبى الحظ ان يماطله عن طريق أولئك الممدوحين الذين لا يثيبونه على شعره الرائع، وليس غير هذا الشعر وسيلة لاكتساب الرزق الشحيح، الذي لا يحصل عليه الا بعد كد ومعاناة.
ونستفيد مما تقدم، ومن كثير غيره ان ابن الرومي كان مظلوما في هجائه لممدوحيه السابقين، فقد كان موقفهم منه مخزيا متعفنا وقد صدق العقاد حين قال: وأنت تقلب ديوان ابن الرومي فتقرأ فيه عشر قصائد في الشكوى والتذكير والاستبطاء والالحاح والإنذار والهجاء، إلى جانب قصيدة واحدة في المدح.
ويعدد العقاد مواقف الممدوحين المخزية من ابن الرومي، فإسماعيل بن بلبل يسئ فهم مديحه الرائع فيه ويظنه هجاه، ومحمد بن عبد الله بن طاهر يهجو شعر ابن الرومي:
مدحت أبا العباس اطلب رفده * فخيبني من رفده، وهجا شعري ويكتب قصيدة في عتاب أبي سهل النوبختي، فيراها ملقاة في جانب الدار، وقد خطط في ظهرها بالمداد، والرياح تتلاعب بها، ولهذا يقول له:
رقعة من معاتب لك ظلت * ولها في ذراك مثوى مهان سطر العابثون فيها أساطير * عفت متنها، فما يستهان (1) خط ولدانكم أفانين فيها * أو رجال كأنهم ولدان وقبيح يجوز كل قبيح * وقعة من معاتب لا تصان وكان ابن الرومي يشعر باستبعاد الممدوحين له، فهم يمنون عليه ان قبلوه في مجالسهم، واحضروه موائدهم، ويفرضون عليه وفاء العبد للسيد، والصنيعة لولي النعمة، ويظنون انهم كلفوه بالعيش الرغيد، والظل الظليل، يقول ابن الرومي في ذلك:
إذا امتاحهم اكلة عبدوه * تعبيد رب لمربوبه (2) يخالون انهم بلغو * ه بالقوت أفضل مطلوبه وانهم حرسوا نفسه * به من غوائل مرهوبه يذيل مضيفهم ضيفه * كملبوسه أو كمركوبه (3) ولهذا هجا ابن الرومي ممدوحيه السابقين، وكان يروي انهم غافلون عن شعره:
ما خمدت ناري، ولكنها * ألفت قلوبا نارها خامدة أو هم جاهلون لا يفهمون:
ما بلغت بي الخطوب رتبة من * تفهم عنه الكلاب والقرده وما انا المنطق البهائم والطير * سليمان قاهر المرده وقد بالغ العقاد في الدفاع عن موقف ابن الرومي من هجاء ممدوحيه فجعلهم كلهم أو أكثرهم لصوصا، لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب والمسلوب من أرزاق الرعية الضعفاء، وليست القضية بهذا التعميم، كما انها ليست قضية لصوصية الممدوحين بل قضية انسانيتهم المضيعة ازاء هذا الشاعر الذي ذوب عصارة فكره في تمجيدهم، ولم يقبض منهم الا على هواء، فعاش مضطهدا كسيرا، ومات مهضوما مظلوما.
من شعره نظرت فاقصدت الفؤاد بسهمها * ثم انثنت عنه فكاد يهيم الموت ان نظرت وان هي أعرضت * وقع السهام ونزعهن اليم وله في وصف السيف وهو نهاية في معناه:
يشيعه قلب رواء وصارم * صقيل بعيد عهده بالصياقل