أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا، فقال أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية، ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم، ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الاحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل.
الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار. والأصل في هذا الباب قوله تعالى: * (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) * والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشئ المحلل وفي مقداره. فأما السبب، فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به، وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني: طلب البرء، وهذا المختلف فيه، فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به، ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام: إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها. وأما جنس الشئ المستباح فهو كل شئ محرم مثل الميتة وغيرها، والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي، ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري، وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف: هل المباح له في حال الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها لقوله تعالى: * (فمن اضطر غير باغ ولا عاد) * واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى: * (غير باغ وعاد) * وذهب غيره إلى جواز ذلك.