معنى الاغتسال هو الدليل عليه، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية، فإن الحذف مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز، وكذلك فرض المجتهد هاهنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه، وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ يطهرن على ظاهره من النقاء، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه أعني: إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء، أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال، وظهور لفظ يطهرن في النقاء. فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له، وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد أعني: إما على معنى النقاء، وإما على معنى الاغتسال بالماء وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا، فتأمله. وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال: كل مجتهد مصيب. وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف.
المسألة الثالثة: اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شئ عليه. وقال أحمد بن حنبل: يتصدق بدينار، أو بنصف دينار، وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينا. وسبب اختلافهم في ذلك: اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك، أو وهيها، وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي (ص) في الذي يأتي امرأته وهي حائض: أنه يتصدق بدينار وروي عنه: بنصف دينار وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وروي في هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار وبه قال الأوزاعي، فمن صح عنده شئ من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها. ومن لم يصح عنده شئ منها - وهم الجمهور - عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل.
المسألة الرابعة: اختلف العلماء فالمستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط، وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم