والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان: أعني المباح الأكل، واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة، فذهب الشافعي إلى أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة فقط وأنه بدل منها في إفادة الطهارة، وذهب أبو حنيفة إلى تأثير الدباغ في جميع ميتات الحيوان ما عدا الخنزير وقال داود تطهر حتى جلد الخنزير. وسبب اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه أنه مر بميتة، فقال عليه الصلاة والسلام:
هلا انتفعتم بجلدها؟ وفي حديث ابن عكيم منع الانتفاع بها مطلقا وذلك أن فيه:
أن رسول الله (ص) كتب ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب، ولا عصب قال: وذلك قبل موته بعام. بعد الدباغ، والمنع قبل الدباغ. والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها، فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس، أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ. وذهب قوم مذهب النسخ، فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه: قبل موته بعام. وذهب قوم مذهب الترجيح لحديث ميمونة، ورأوا أنه يتضمن زيادة على ما في حديث ابن عباس، وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ، لان الانتفاع غير الطهارة، أعني كل طاهر ينتفع به، وليس يلزم عكس هذا المعنى:
أعني أن كل ما ينتفع به هو طاهر.
المسألة الرابعة: اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري، فقال قوم: دم السمك طاهر، وهو أحد قولي مالك، ومذهب الشافعي وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه. وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور. والسبب في اختلافهم:
في دم السمك هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم، جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتته، أخرج دمه قياسا على الميتة. وفي ذلك أثر ضعيف، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: أحلت لنا ميتتان، ودمان: الجراد، والحوت، والكبد والطحال.
وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله، فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق، أو بالمطلق على المقيد، وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * وورد مقيدا في قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي