شئ لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة، واستعمال الارصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد، ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الارصاد المستنبط منها طول البلاد، وعرضها.
وأما المسألة الثانية: فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة، أو الاجتهاد فقط حتى يكون؟ إذا قلنا إن فرضه الإصابة، متى تبين له أنه أخطأ، أعاد الصلاة، ومتى قلنا: إن فرضه الاجتهاد، لم يجب أن يعيد، إذا تبين له الخطأ، وقد كان صلى قبل اجتهاده. أما الشافعي:
فزعم أن فرضه الإصابة، وأنه إذا تبين له أنه أخطأ، أعاد أبدا وقال قوم: لا يعيد، وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد، وبه قال مالك وأبو حنيفة، إلا أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت. وسبب الخلاف في ذلك: معارضة الأثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح أما القياس: فهو تشبيه الجهة بالوقت: أعني بوقت الصلاة، وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه، هو الإصابة، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت، أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل، فصلى العشاء قبل غيبوبة الشفق، ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت، وهذا ميقات جهة. وأما الأثر فحديث عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله (ص) في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى مراجعة وعلمنا، فلما أصبحنا، فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا رسول الله (ص)، فقال: مضت صلاتكم ونزلت: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) * وعلى هذا، فتكون هذه الآية محكمة، وتكون فيمن صلى، فانكشف له أنه صلى لغير القبلة والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى: * (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام) * فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان، ومن ذهب مذهب الأثر، لم تبطل صلاته.
وفي هذا الباب مسألة مشهورة، وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة. وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من منعه على الاطلاق، ومنهم من أجازه على الاطلاق، ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض. وسبب اختلافهم: تعارض الآثار في ذلك، والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل، هل يسمى مستقبلا للبيت، كما يسمى من استقبله من خارج أم لا؟ أما الأثر: فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت. أحدهما: حديث ابن عباس قال: لما دخل رسول الله (ص) البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة. والثاني حديث عبد الله بن عمر.