وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: إذا استيقظ أحدكم من نومه الحديث يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك أيضا حديث أبي هرير الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه فإنه يوهب ظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. وأما حديث أنس الثابت: أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله (ص): دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله (ص) بذنوب ماء فصب على بوله فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء. إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب. وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله (ص) يقال له: إنه يستقي من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب، والمحائض، وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الماء لا ينجسه شئ. فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث، واختلفوا في طريق الجمع، فاختلفت لذلك مذاهبهم: فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الاعرابي، وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة، لا لان ذلك الماء بنجس، حتى أن الظاهرية أفرطت في ذلك، فقالت: لو صب البول انسان في ذلك الماء من قدح، لما كره الغسل به والوضوء. فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الاعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما أعني على الاجزاء. وأما الشافعي، وأبو حنيفة فجمعا بين حديثي أبي هريرة، وحديث أبي سعيد الخدري بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله ابن عمر عن أبيه وخرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال: سئل رسول الله (ص) عن الماء، وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا. وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه، فالماء طاهر. لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الاعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة، وورودها على الماء، فقالوا: إن ورد عليها الماء كما في حديث الاعرابي لم ينجس، وإن ورد ت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس. وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الاجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا
(٢٤)