فكنت مقيما فيها، ولم يكن ارتفاعها يكفيني، فكنت أدافع الأوقات وأصبر على مضض من الإضافة مدة. ثم بلغتني اخبار الشام وخلوها الا من يأنس المؤنسي وكون ابن طغج بمصر بعيدا عنها، ورضاه بان يجعل يأنس عليها ويحمل إليه الشئ اليسير منها، ففكرت في جمع جيش وقصدها واخذها وطرد يأنس ومدافعة ابن طغج ان سار إلي بجهدي، فان قدرت على ذلك والا قد تعجلت من أموالها ما تزول به إضاقتي مدة، ووجدت جمع الجيش لا يمكن الا بالمال، وليس لي مال، فقلت اقصد أخي و أسأله ان يعاونني بألف رجل من جيشه يزيح هو علتهم أي يتحمل تكاليفهم ويعطيني شيئا من المال واخرج بهم فيكون عملي زائدا في عمله وعزه.
وكانت تأخذني حمى ربع، فرحلت إلى الموصل على ما بي ودخلت إلى أخي وسلمت عليه، فقال: ما أقدمك، فقلت: أمر أذكره بعد، فرحب وافترقنا، فراسلته في هذا المعنى وشرحت له، فاظهر من المنع القبيح والرد الشديد غير قليل. ثم شافهته فكان أشد امتناعا، وطرحت عليه جميع من كان يتجاسر على خطابه في مثل هذا فيردهم، وكان لجوجا إذا منع من الأول شيئا يلتمس منه أقام على المنع. ولم يبق في نفسي من يجوز ان اطرحه عليه واقدر انه يجيبه الا امرأته الكردية والدة أبي تغلب، فقصدتها وخاطبتها في حاجتي وسالتها مسألته فقالت: أنت تعلم خلقه، وقد ردك، وان سألته عقيب ذلك ردني أيضا فاخرق جاهي عنده ولم يقض الحاجة ولكن أقم أياما حتى أظفر منه في خلال ذلك بنشاط أو سبب اجعله طريقا للكلام والمشورة عليه والمسألة فيه، فعلمت صحة قولها فأقمت. فاني جالس بحضرته يوما إذ جاءه براج الموكل إليه أبراج الحمام الزاجل بكتاب طائر عرفه سقوطه من بغداد أي ان الكتاب من الزاجل القادم من بغداد فلما قرأه اسود وجهه واسترجع وأظهر قلقا وغما وقال: انا لله وانا إليه راجعون، يا قوم، المتعجرف الأحمق الجاهل المبذر السخيف الرأي الردئ التدبير الفقير القليل الجيش، يقتل الحازم المرتفق العاقل الوثيق الرأي الضابط الجيد التدبير الغني الكثير الجيش؟ فرمى الكتاب وقال:
قف عليه، فإذا هو كتاب خليفته ببغداد بتاريخ يومين يقول: إن في هذه الساعة تناثرت الاخبار وصحت بقتل أبي عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف واستيلائه على البصرة. فلما قرأت ذلك مع ما سمعت من كلامه، مت جرعا وفزعا، ولم أشك انه يعتقد اني كأني أبو عبد الله البريدي في الأخلاق التي وصفه بها، ويعتقد في نفسه أنه كابي يوسف، وقد جئته في أمر جيش ومال، ولم أشك في أن ذلك سيولد له أمرا في القبض علي وحبسي، فأخذت اداريه واسكن منه وأطعن على أبي عبد الله البريدي وأزيد في الاستقباح لفعله وتعجيز رأيه إلى أن انقطع الكلام. ثم أظهرت له انه قد ظهرت الحمى التي تجيئني، وانه وقتها وقد جاءت فقمت، فقال: يا غلمان، بين يديه، فركبت دابتي وتحركت إلى معسكري. وقد كنت منذ وردت وعسكري ظاهر البلد ولم انزل دارا فحين دخلت معسكري وكان بالدير الاعلى لم انزل وقلت لغلماني: ارحلوا الساعة الساعة ولا تضربوا بوقا واتبعوني، وتحركت وحدي فلحقني نفر من غلماني، وكنت اركض على وجهي خوفا من مبادرة ناصر الدولة إلي بمكروه، فما علقت أي أنخت ركبي و استرحت حتى وصلت إلى بلد اسم قرية من اعمال الموصل في نفر قليل من أهل معسكري وتبعني الباقون، فحين وردوا نهضت للرحيل ولم أدعهم ان يرخوا وخرجنا، فلما صرنا على فرسخ من البلد إذا باعلام وجيش لاحقين بنا، فلم أشك ان أخي أنفذهم للقبض علي. فقلت لمن معي: تاهبوا للحرب ولا تبدأوا وحثوا السير، فإذا بأعرابي يركض وحده حتى لحق بي وقال: أيها الأمير، ما هذا السير المحث؟ خادمك دنحا قد وافى برسالة الأمير ناصر الدولة ويسالك ان تتوقف عليه حتى يلحقك، فلما ذكر دنحا قلت: لو كان شرا ما ورد دنحا فيه، فنزلت وقد كان السير كدني والحمى أخذتني، فطرحت نفسي لما بي، ولحقني دنحا واخذ يعاتبني على شدة السير فصدقته عما كان في نفسي. فقال: اعلم أن الذي ظننته انقلب، وقد تمكنت لك في نفسه هيبة بما جرى، وبعثني إليك برسالة يقول لك: انك قد كنت جئتني تلتمس كيت وكيت فصادفت مني ضجرا وأجبتك بالرد، ثم علمت أن الصواب معك، فكنت منتظرا ان تعاودني في المسألة فأجيبك فخرجت من غير معاودة ولا توديع، والآن ان شئت فاقم بسنجار بنصيبين فاني منفذ إليك ما التمست من المال والرجال لتسير إلى الشام. فقلت لدنحا: تشكره وتجزيه الخير وتقول كذا وكذا، وأشياء وافقته عليها، وتقول: اني خرجت من غير وداع لخبر بلغني في الحال من طروق الاعراب لعملي، فركبت لألحقهم، وتركت معاودة المسألة تخفيفا، فإذا كان قد رأى هذا فانا ولده، وان تم لي شئ فهو له، وانا مقيم بنصيبين لانتظر وعده. وسرت ورجع دنحا، فما كان الا أيام يسيرة حتى جاءني دنحا ومعه ألف رجل قد أزيحت عللهم واعطوا أرزاقهم ونفقاتهم وعرضت دوابهم وبغالهم ومعهم خمسون ألف دينار، وقال هؤلاء الرجال وهذا المال، فاستخر الله وسر. فسرت إلى حلب وملكته وكانت وقائعي مع الأخشيدية بعد ذلك المعروفة (1).
مملكة سيف الدولة الحق ان مملكة سيف الدولة تمتاز بكثرة المدن الهامة مثل حلب وأنطاكية وقنسرين ومنبج وبالس ومعرة النعمان ومعرة مصرين وسرمين وكفر طاب وأفامية وعزاز وحماه وحمص وطرطوس، كما انها تمتاز بكثرة الثغور التي يطلقون على كثير منها اسم الثغور الجزرية وهي في الواقع ثغور شامية وانما سميت بالجزرية لان أكثر المرابطين بها من أهل الجزيرة. ومن الثغور الهامة المصيصة وأدنه ومرعش وطرطوس والحدث وزبطرة وملطية وسميساط ورعبان ودلوك. يضاف إلى كل ذلك ديار بكر التي ولد سيف الدولة ثم دفن في إحدى مدنها وهي ميافارقين، وديار مضر التي كانت الرقة عاصمة لها ثم ما تم له فتحه من بلاد أرمنية.
التأليف في ظل سيف الدولة هناك قصة اهداء أبي الفرج الأصفهاني كتابه الأغاني إلى سيف الدولة واعطاء سيف الدولة له ألف دينار، ولقد ألف أبو الفرج كتابه بعيدا عن حلب، وانما قصدها ليهديه إلى الأمير الأديب، ولكن هناك كتبا كثيرة في فنون مختلفة قد ألفها العلماء والأدباء الذين عاشوا في كنف سيف الدولة وفي بلاطه، وقد وصل إلينا بعض هذه الكتب وضاع البعض الآخر مع ما فقد من كنوز التراث العربي في فترات المحن المتكررة.
ففي الطب كان فيما يذكر المؤرخون يقف على مائدة سيف الدولة