والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تبدؤوا بالقتال، قاله مقاتل.
والرابع: أنه ترك القتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسر في أن الله تعالى عظم بعض الشهور على بعض، ليكون الكف عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجا للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.
إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطؤا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدى القوم الكافرين (37) قوله تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر) الجمهور على همز النسئ ومده وكسر سينه. وروى شبل عن ابن كثير: " النس ء " على وزن النسع. وفي رواية أخرى عن شبل:
" النسي " مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر، والمراد بالكلمة التأخير. قال اللغويون: النسئ: تأخير الشئ. وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده، ثم تتدافع الشهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها، فكأنهم يستنسئون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم الله تعالى أن ذلك زيادة في كفرهم، لأنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال (ليواطئوا) أي: ليوافقوا (عدة ما حرم الله) فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام، وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن منى، قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول:
أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرا، يريدون: أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة، فتستدير الشهور كما بينا. وقيل: إنما كانوا يستحلون المحرم عاما، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إلي، لأن هذا القول ليس فيه استدارة. وقال مجاهد: كان أول من أظهر النسئ جنادة بن عوف الكناني، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة، فذلك حين