فإن قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي.
والثاني: أنهم ثبتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي، وهو حق لا يخفى على مميز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه.
والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد بالتصديق، وحرضوا على اتباعه، فلما آمنوا بهم وكذبوه، دلوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الأنباري.
فإن قيل: ما وجه قوله [تعالى]: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ولم يذكر الرسول، والإيمان لا يتم إلا به؟ فالجواب: أن فيه دليلا على الرسول، لقوله: [تعالى]:
(وأقام الصلاة) أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج. فإن قيل: (فعسى) ترج، وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك. فالجواب، أن " عسى " من الله واجبة، قاله ابن عباس. فإن قيل: قد يعمر مساجد الله من ليس فيه هذه الصفات. فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها، وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصفة.
* أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22) قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) في سبب نزولها ستة أقوال:
أحدها: رواه مسلم في " صحيحه " من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج، وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو يوم الجمعة، ولكني إذا