المغول. فقد حوصرت بغداد ثم فتحت واخذ هو أسيرا بعد فتحها من التتار وشاهد أعظم ملوكهم وأقطاب دولتهم في أعظم عصورها وأزهى أيامها وذلك من أيام الطاغية هولاكو إلى أيام احفاده أرغون وغازان ومن بعدهما إلى زمان السلطان أبي سعيد كما أنه زار أشهر حواضرهم واتصل بحكامها وأعيانها وعلمائها ودرس حالة عصره من شتى نواحيها بل تمكن من الوصول إلى مقاصر الأميرات المغوليات.
ممن اتصل به في شبابه آل الجويني أشهر من حكم العراق في عهد هولاكو وابنه اباقا خصوصا الصاحب علاء الدين الجويني وكذلك الفيلسوف نصير الدين الطوسي وأولاده وتلامذته وغيرهم من رجال العلم والسياسة الذين امتازوا بخبرتهم وتفانيهم في النضال عن حقوق العراقيين والمسلمين في محنتهم الكبرى ثم ذهبت أيام هولاكو وابنه اباقا وجاءت دولة حفيده ارغون وفيها تغيرت الأحوال وتنكرت السياسة وفتك ارغون بال الجويني واستاصلهم لكونهم من حزب أخيه السلطان احمد وقرب إليه مناوئيهم في السياسة المذكورة وكانت سياسة ارغون هذا سياسة بطش وانتقام من العراقيين بسبب ميلهم إلى آل الجويني، وقد شهد ابن الفوطي مظاهر ذلك الصراع السياسي العنيف بين احزاب المغول وبطش بعضها ببعض بكل ما عرف عنهم من قسوة وفظاعة وتمثيل كما شهد مصارع آل الجويني وأعيان هذا البيت الذين سلخوا في إدارة شؤون العراق أكثر من عشرين سنة أحبهم خلالها العراقيون حبا جما وكذلك أدرك وفاة أساتذته نصير الدين الطوسي ومعاصريه وتلامذته وغيرهم من الناس.
هذه هي الروايات التي شاهدها ابن الفوطي على مسرح الحياة منذ فتح بغداد إلى أواخر القرن السابع وهو العصر الأول من عصور المغول وقد شاهد أيضا مثلها في العصر الثاني ما بين أيام غازان إلى أيام حفيده أبي سعيد وهو عصر يختلف بروحه ومميزاته عن سابقه إذ تطورت فيه مظاهر الحياة عند المغول وزهت الحضارة في مدنهم وارتقت نظمهم الاجتماعية ونبذوا كثيرا من عاداتهم الوثنية وكان هذا الحادث الاجتماعي الخطير نتيجة لازمة لاحتكاكهم بمظاهر الحضارة الاسلامية مدة لا تقل عن خمسين سنة فأسلمت الشعوب المغولية بأسرها وقد أكثر ابن الفوطي في هذا العصر من التردد إلى حواضر المغول وزار عواصمهم واتصل بحكامها وعلمائها وأعيانها وفي مقدمتهم رشيد الدين الطبيب وابنه الأمير غياث الدين أشهر ساسة العصر الثاني من عصور المغول كما أنه حرر حوادث هذا العصر وترجم لرجاله ووصف مظاهر الحياة فيه وصف المثقف الخبير بشؤون الحياة في ذلك العصر وحفظ لنا ذلك كله في كتبه ومعاجمه فكتب ابن الفوطي والحالة هذه من أصح المستندات العربية التي يعول عليها في تاريخ تلك الحقبة وهي في الحقيقة حضارة تلك العصر في تراجم سياسته وعلمائه وأرباب الصنائع والفنون ورجال المال فيه.
توفرت وانا في الشام على دراسة هذا الكنز الثمين وذلك من ناحية صلته بتاريخ العراق في عصر المؤلف وقد عرض ابن الفوطي لسيرته خاصة في كثير من مواضعه وذلك بمنتهى الصراحة فالكتاب في الوقت نفسه سيرة من السير الخاصة الممتعة.
ولد كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد المشهور بابن الفوطي الشيباني البغدادي في بغداد سنة 642 ه اي بعد مضي سنتين على مبايعة المستعصم آخر خلفاء بني العباس ولسنا نعرف شيئا كثيرا عن حداثته ولا عن دراسته فيها وكل ما نعلمه من كتب ابن الفوطي نفسه انه ولد في أسرة متوسطة الحال كانت تسكن في محلة الخاتونية إحدى المحلات القريبة من دار الخلافة كما أنه سمع من الصاحب محيي الدين بن الجوزي أستاذ دار الخلافة القتيل في الواقعة هذا قبل واقعة بغداد إما بعد ذلك فقد أسر وليس له من العمر الا أربع عشرة سنة وحمل إلى آذربيجان ونقل من مكان إلى مكان الا انه لم يمكث في الأسر طويلا فان الفيلسوف نصير الدين الطوسي سعى في الافراج عنه بعد مضي سنة أو أكثر قليلا من ذلك على اسره وأقام عنده ثلاث عشرة سنة في مراغة حاضرة المغول وذلك في أيام هولاكو وابنه اباقا وقد عظمت مراغة في هذا العصر وهو عصر إقامة ابن الفوطي فيها وأصبحت عاصمة المشرق الذي تم فتحه على أيدي المغول ومن جملة توابعها خراسان وبلاد العجم بأسرها وكذلك بلاد الروم اي الأناضول وبلاد العراق، ومال المغول في حاضرتهم هذه إلى تشجيع العلوم الرياضية والطبيعية وأنشئ في مقدمة ما أنشئ من المعاهد العلمية فيها دار الرصد المشهورة وخزانة كتبها الكبيرة وذلك بعد مضي سنة واحدة على فتح بغداد وقد استقدموا إليها أئمة العلوم الرياضية والعقلية من كل حدب وصوب كما وضع للعمل في المعهد المذكور وللمطالعة والدراسة في مكتبته نظام دقيق أشار إليه ابن الفوطي وقد تم ذلك كله باشراف نصير الدين الطوسي، وشهد ابن الفوطي تأسيس دار الرصد المذكورة كما سلخ فيها وفي مكتبتها ثلاث عشرة سنة ملازما لنصير الدين ولغيره من كبار علمائها وأساتذتها ويعد نصير الدين أكبر عامل في تهذيب ابن الفوطي وذلك في هذه الحقبة من حياته وقد وجهه إلى دراسة العلوم الرياضية والنظريات الفلسفية مدة ملازمته له كما عهد إليه بالاشراف على خزانة كتب دار الرصد المشار إليها وهي أعظم خزانة بعد خزانة المستنصرية وفيها على الأرجح بدأ ابن الفوطي بالتأليف وظهر ميله إلى التاريخ والتفنن في تنسيق مؤلفاته وترتيبها ولعله أول مؤرخ استعمل الجداول والاشكال الهندسية في معاجم التراجم وكتب التاريخ.
عرض ابن الفوطي فيما وصل إلينا من كتبه إلى جميع ما يتعلق بدار الرصد المذكورة فذكر كيفية انشائها واستقدام أساتذتها وأشار إلى وظائفهم وترجم لكل منهم ترجمة ممتعة مشيرا إلى اختصاصه ومؤلفاته كما أنه ألف خلال اقامته فيها مجموعة سماها تذكرة الرصد خصصها بذكر كل من زار الدار المشار إليها أو قصد إلى مكتبتها واستطرد في تذكرته المذكورة إلى فوائد علمية وتاريخية كثيرة ويستفاد من ذلك ان دار الرصد كانت تقصد وتزار من قبل عدد كبير من الناس بينهم العالم والمتعلم والمتفرج وكذلك مكتبتها وقد وصف لنا بعض ما في هذه المكتبة من آثار نفيسة وصفا ممتعا كالشاهنامة المغولية المصورة التي نظمها الشاعر أبو الفضل أحمد بن بنجير نزيل الروم وتخلص في آخر ترجمة كل سلطان بذكر هولاكو. قال ابن الفوطي: وعرضها صاحبها في الحضرة سنة ستين وستمائة وقررت له المشاهرة الوافية إلى أن قال: رأيت هذه النسخة في ثلاثة مجلدات قطع النصف وقد صورها وهي بخزانة كتب الرصد. ثم اورد بعض الأمثلة منها وقال أيضا في ترجمة عز الدين مظفر بن الحسن بن العميد من شعراء عصره: رأيت ديوانه بخزانة كتب الرصد سنة ثلاث وستين وجاء في ترجمة قوام الدين عبد الله بن عبد الرحمن الحكيم قدم مراغة واستوطنها وكان فاضلا وكتب إلي أبياتا يلتمس فيها مفتاح الرصد وكان قد صعد مع جماعة من أصحابه وورد في قطب الدين أحمد بن محمود بن أبي بكر الناسخ