والتحصيل لما عاد إلى بغداد ودخل المستنصرية وفي هذه البيئة العلمية الجديدة كانت قراءة الفقه والحديث شغله الشاغل فأكثر من الاخذ عن الفقهاء والسماع من المحدثين والرواية عن الشيوخ وما ناهز الحادية والخمسين من عمره حتى بلغ مرتبة الأئمة في الحديث ونال درجة الحفاظ وعده الذهبي منهم وبالجملة أصبح من الاعلام الذين يشار إليهم بالبنان في العراق وفي غيره من البلدان وذلك بدون ان يتحيز أو يفرق بين أهل المذاهب من الشيوخ ولذلك اجازه غير واحد منهم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم وهو أمر لا يتفق الا لمن وقف نفسه على طلب الحق والتحري عن الحقيقة.
والواقع انه درس كثيرا من الطرق والمذاهب وكان في درسه عاقلا حكيما يمثل رحابة الصدر وطول الأناة أحسن تمثيل.
أكثر ابن الفوطي كما تقدم في اخذه من اعلام العراق خصوصا في فنون الأدب وعلوم الشريعة وقد وضع معجما خاصا بمن اخذ عنهم من الشيوخ أوصل عددهم فيه إلى الخمسمائة وليس يعنينا ذكر هؤلاء الشيوخ بأسرهم هذا إذا كان ذلك في الإمكان وانما يعنينا ذكر مشاهير شيوخه وأعيان العراقيين الذين اختص بهم وقضى معظم أيامه ببغداد إلى جانبهم واستفاد من الاتصال بهم أو ارتبط برابطة الود معهم فمن أشهر هؤلاء غياث الدين عبد الكريم بن طاووس الفقيه النسابة النقيب المشهور قال لم أر في مشايخي احفظ منه للسير والآثار والأحاديث والاخبار والحكايات والاشعار جمع وصنف وألف وكان يشارك الناس في علومهم وكانت داره مجمع الأئمة والاشراف وكتبت لخزانته الدر النظيم فيمن تسمى بعبد الكريم وسألته عن مولده فذكر انه ولد في شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة وتوفي يوم السبت 16 شوال سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
وكذلك عميد الدين أبو الحارث عبد المطلب بن شمس الدين النقيب بن المختار جاء في الكتاب عنه مختار آل المختار الظاهر ابن النقباء الاطهار من محاسن الدنيا في علو الهمة ووفور الحشمة والأخلاق المهذبة والاعراق الطيبة كان لأفاضل بغداد عليه رسوم من الإنعام يوصلها إليهم كل عام ولما وصلت من مراغة أسهم لي قسطا وافرا وكان أديبا فصيح البيان مليح الخط له اطلاع على كتب الأنساب ومشاركة في جميع العلوم والآداب صنف لأجله شيخنا جمال الدين بن مهنا كتاب الدوحة المطلبية طالعتها في دار المعمورة سنة إحدى وثمانين وستمائة وكان ينعم ويتردد إلى داري ويطالع ما جمعته ووضعته والفته وصنفته.
والأمير فلك الدين محمد المستعصمي قال عنه من أبناء الامراء ذكر لي انه ولد ببغداد سنة تسع وثلاثين وستمائة ولما ترعرع اشتغل بالخط والأدب والفروسية ولما أخذت بغداد حصل مع ملك الكرج واتصل بحضرة السلطان هولاكو وقربه وجعله شحنة على الحكماء الذين يلوذون بحضرته لعمل الكيمياء ولما توفي السلطان رجع إلى بغداد ورتب خازنا للديوان واشتغل في عمل كتاب الجوهر الفريد وبيت القصيد وهو كتاب لم يؤلف مثله وكان قد علاه دين فخدم خزانة الوزير سعد الدين بالكتاب فجاءه ما لم يكن في حسبانه وتوفي في رجب سنة عشر وسبعمائة وله شعر حسن واخبار ذكرت في التاريخ أكثرها وكانت بيني وبينه معرفة وصداقة واتحاد منذ خمسين سنة ولما قدمت بغداد كنت أتردد إلى خدمته ويشرفني أيضا بحضوره ورثيته بأبيات.
وقوام الدين بن علي الشيباني النعماني الكتبي قال: من بيت معروف بالرئاسة والعدالة والتصرف والقضاء كان قوام الدين صديقي يتردد إلي وكان عارفا بخطوط المصنفين وبقية الكتب واقتنى كتبا نفيسة وسافر إلى الشام وكان يعرض علي ما يحصل له من النسخ المختارة بخطوط الأدباء كتبت عنه وكان حسن العشرة يحفظ كثيرا من الاشعار.
وعفيف الدين بن ميمون الحلي النحوي المجاور الدار القرآن بالمستنصرية كان يتردد إلى حضرة النقيب الكامل صفي الدين بن طباطبا ونجتمع معه وتجري لنا أوقات حميدة.
هذا وفي سنة إحدى وثمانين وستمائة زار ابن الفوطي الحلة صحبة الأمير فخر الدين بغدي ونزل ضيفا عليه مدة من الزمان وكانت الحلة مركزا من مراكز العلم والأدب في تلك الأيام فاتصل بكثير من زعمائها وأدبائها رأى جماعة منهم في دار الأمير المذكور فكتب عنهم وترجم لهم ويمكن ان يقال إن كتابه حفظ لنا جانبا من تاريخ الحلة ونهضتها العلمية وحالتها السياسية وغير ذلك في تلك الأيام.
هذا ولم يتخل ابن الفوطي عن وظيفته في المستنصرية الا في سنة 704 ه اي انه باشرها خمسا وعشرين سنة بدأت سنة تسع وسبعين وستمائة وانتهت سنة أربع وسبعمائة وفي هذه السنة رحل إلى تبريز فأقام فيها ست سنوات عاد بعدها إلى بغداد ثم رحل مرة ثانية إلى تبريز وقد كثر تردده إليها وإقامته فيها وذلك في أيام رشيد الدين الطبيب أشهر ساسة العصر الثاني من عصور المغول وهو خليطه وزميله في الدراسة على نصير الدين وقد اختص به وقضى الشطر الأخير من حياته قريبا منه إلى أن قتل رشيد الدين سنة ثماني عشر وسبعمائة كما اختص بابنه الأمير غياث الدين وزير الشرق في أيام أبي سعيد وكانت تبريز والسلطانية وغيرهما من حواضر المغول تجتذب إليها رجال العلم والأدب والتفكير كما كانت الوفود لا تنقطع عنها ولا سيما من العراق. والخلاصة كان هذا العصر أزهى عصور تبريز لا سيما من حيث عمرانها وكثرة ما أنشئ فيها من المدارس والمعاهد الخيرية والدينية في أيام رشيد الدين وابنه الأمير غياث الدين وقد تطورت في هذا العصر مظاهر الحياة كلها لدى المغول وقطعت شعوبهم شوطا بعيدا في مضمار الحضارة وارتفعت نظمهم الاجتماعية وكان لآل الجويني في العصر السابق ولرشيد الدين الطبيب وأهل بيته من بعدهم اثر محمود في التطور المذكور كما كان من علماء تبريز في هذه الحقبة الامام قطب الدين الرازي المتوفى سنة عشر وسبعمائة الذي اشتهر بمؤلفاته الرياضية والفلسفية والدينية وقد اخذ ابن الفوطي في هذه المرة عن أشهر مشاهير علماء تبريز وفي مقدمتهم قطب الدين المذكور وأجاز له ولا نعرف بعد نصير الدين من اثر فيه مثل قطب الدين ثم رشيد الدين الطبيب، الأول في طريقته العلمية والأخلاقية والثاني في بعض ميوله السياسية والفلسفية وقد اشتهر رشيد الدين بسعة اطلاعه وكثرة مؤلفاته في الطب والفلسفة والتاريخ وله كتاب مشهور في تاريخ المغول نقل عنه ابن الفوطي كثيرا فيما كتبه عنهم كما عرف بميله إلى الحرية الواسعة في التفكير وقد اطلق الحرية التامة للمفكرين والفلاسفة أو المتفلسفين ولكنها حرية أسئ استعمالها من جانب بعض المتطرفين كما أنه أشهر من شجع التعليم والتآليف واجزل الصلات للمؤلفين وقد ألفت باسمه كثير من الكتب ولا