ثم يقول بعد الإقامة فيها:
ولكن لي في ماردين معاشرا * شددت بهم لما حللت ازري ملوك إذا القى الزمان حباله * جعلتهم في كل نائبة ذخري ويقول متشوقا إلى العراق وهو في ماردين:
فارقت زوراء العراق وان لي * قلبا أقام بربعه المألوف وفي تعاطيه التجارة يقول في الملك الصالح:
تقول لي العلياء ان زرت ربعه * رويدك كم في الأرض تشقى وتكدح إذا كنت ترضى ان تعد بتاجر * هلم ففيه تاجر المدح يربح وفي إحدى رحلاته التجارية ارسل من دمشق إلى الملك الصالح في ماردين قصيدة وقال فيها:
أعد إذا فارقت مغناك تاجرا * فان أبت ظنوني شريكك في الملك مع الأرتقيين كان الأرتقيون حكام ماردين في ظل السيطرة المغولية، ولما ذهب السلطان غازان المغولي لفتح الشام كان الملك المنصور معه، ولكنه على رواية ابن الأثير كان يناصح سرا الملك الناصر محمد بن قلاوون، وإذا كان المغول في ذلك الحين هم حكام العراق فعلا فإنهم لم يكونوا كذلك فيما نأي من الأطراف كماردين التي كانت سيطرتهم عليها سيطرة غير عملية.
والأرتقيون وان كانوا أتراكا الا انهم كانوا يستجيدون الشعر العربي ويستنشدونه ويطربون للمدائح، ولا بدع فالثقافة العربية واللسان العربي هما السائدان، لذلك استقبل صفي الدين في البلاط الأرتقي استقبالا حافلا واحتضنه الملك المنصور وأكرمه، وانشد صفي الدين في مدائحه مطولات القصائد، حتى أنه اختصه بديوان كبير سماه درر النحور في مدائح الملك المنصور التزم فيه ان يكون أول البيت وقافيته على حرف واحد، فإذا كانت القافية همزية كانت أوائل الأبيات كذلك كقوله:
أبت الوصال مخالفة الرقباء * واتتك تحت مدارع الظلماء أصفتك من بعد الصدود مودة * وكذا الدواء يكون بعد الداء وإذا كانت القافية بائية كانت أوائل الأبيات كذلك كقوله:
بدت لنا الراح في تاج من الحبب * فمزقت حلة الظلماء باللهب بكر إذا زوجت بالماء أولدها * أطفال در على مهد من الذهب بقية من بقايا قوم نوح إذا * لاحت جلت ظلمة الأحزان والكرب وإذا كانت القافية تائية كانت القافية كذلك كقوله:
تاب الزمان من الذنوب فوات * واغنم لذيذ العيش قبل فوات تم السرور بنا فقم يا صاحبي * نستدرك الماضي بنهب الآتي تاقت إلى شرب المدام نفوسنا * لا تذهبن بطالة الأوقات وهكذا حتى تنتهي الحروف الهجائية، وهي تسع وعشرون قصيدة، كل قصيدة تسعة وعشرون بيتا، وقد عرفت هذه القصائد بالقصائد الأرتقيات وفيها يقول:
تسع وعشرون قد عدت قصائدها * ومثلها عدد الأبيات في النسق لم اقتنع بالقوافي في أواخرها * حتى لزمت أواليها فلم تفق وقد سبق صفي الدين بهذا الضرب من الشعر شاعران هما أبو زيد عبد الرحمن الأندلسي المتوفى سنة 637 اي قبل ولادة صفي الدين بأربعين عاما وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر البغدادي المشهور بالوتري المتوفى 622 في بغداد اي قبل ولادة صفي الدين بأكثر من خمسة عشر عاما. ولكن الشاعرين لم يشتهرا ولا اشتهر شعرهما.
وقد عرف هذا الشعر بعد ذلك باسم الروضة وجاراه كثير من الشعراء.
وبعد وفاة الملك المنصور كان صفي الدين في رحاب ابنه الملك الصالح شمس الدين صالح، على ما كان عليه في عهد أبيه من اكرام ورعاية من الملك، ومدح وشكر من صفي الدين وهو في مدحه للأرتقيين يكرر انه لم يكن مداحا، ولا الاستجداء بالشعر من أخلاقه، وانما كان وفيا لهم إذ حموه حين عز الحامي ولا بد لنا من الإشارة إلى ما سبق وقلناه من أن المترجم كان يمتهن التجارة حتى وهو في ماردين فيرحل في سبيلها إلى أقاصي البلاد، وهو بذلك يحقق ما قاله من أن الأصل في مديحه لم يكن طلب العيش لان له ما يعيش منه.
وها نحن نراه وهو يمدح الملك الصالح يصرح بأنه لم يمدحه الا لكونه ابن المنصور الذي اجاره وحمى دمه.
يا ابن الذي كفل الأنام كأنما * أوصاه آدم في كلاية ولده المالك المنصور والملك الذي * جاز الفخار بجده وبجده أصل به طابت ماثر مجدكم * والغصن يظهر طيبه من ورده ولذاك لم يرني بمنظر شاعر * تبغي قصائده جوائز قصده ولقد عهدت إلى عرائس فكرتي * ان لا تزف لغيره من بعده لكنك الفرع الذي هو أصله * شرفا ومجدك بضعة من مجده ويكرر صفي الدين القول بأنه لا يمدح للعطاء بل للوفاء فقد قال قبل ذلك للملك الصالح:
مدحي لمجدك عن وداد خالص * وسواي يضمر صابه في شهده انا لا أروم به الجزاء لأنه * ثمر أنزه خلتي عن ورده لا كالذي جعل القريض بضاعة * متوقعا كسب الغنى من كده ونرى أن صفي الدين قد اخذ على نفسه ان لا يمدح أحدا غير هذين، وإذا استثنينا مدحه للملك الناصر محمد بن قلاوون، فانا نراه قد التزم بما اخذه على نفسه، وفي الحقيقة فان مدحه للملك الناصر كان شيئا لا بد منه بعد ان قدم إليه فاحتفى به الملك حفاوة مقدر له معجب به واقترح عليه ان يجمع ديوانه فنفذ اقتراحه وجمعه وهو في رعايته بمصر.
واخذا بما الزم به نفسه نراه يتأبى عن مدح الملك المؤيد إسماعيل صاحب حماه. فكان جزاؤه منه على اكرامه له إن كان يشكره شعرا على عطاياه وهداياه ويهنئه بالأعياد، ولا يسمي ذلك مدحا بل حمدا.
وفي بعض مدائحه للأرتقيين يبدو شاعرا متحمسا لنضالهم وحمايتهم للثغور الاسلامية فهو في مثل هذا الشعر شاعر وطني على حد تعبيرنا اليوم يتمدح بمن ذادوا الأعداء عن الوطن ويثني عليهم ثناء الوفي لأرضه المخلص لعقيدته كقوله في الملك المنصور:
كم قد أبدت من الأعداء من فئة * تحت العجاج وكم فرقت من فرق