قال الشيخ محمد رضا الشيبي:
عبد المحسن بن محمد بن طالب الصوري هكذا أورد نسبه الثعالبي في تتمة اليتيمة، أما ابن خلكان فقال أبو محمد عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب لا طالب بن غلبون الصوري الشاعر المشهور وبين النسبين اختلاف كما ترى ونحن نميل إلى قول ابن خلكان لأنه من المحققين في النسب والتاريخ. والصوري كما قال القاضي في وفيات الأعيان أحد المحسنين المجيدين، شعره بديع الألفاظ حسن المعاني رائق الكلام مليح النظام من محاسن أهل الشام له ديوان شعر أحسن فيه كل الاحسان وقد نقل القاضي المذكور نتفة من شعره قال في آخرها: ومحاسنه كثيرة والاقتصار أولى.
الصوري والمؤرخون كلام المؤرخين والمتأدبين عن هذا الشاعر مقتضب موجز كما نجده في تتمة اليتيمة ووفيات الأعيان والسبب في ذلك على ما نرجح هو انزواء هذا الشاعر وميله إلى العزلة وقلة خروجه من صور إلى غيرها من البلدان فقل لذلك العارفون به الواقفون على أحواله.
حياته من شعره يظهر لنا من تصفح ديوان الصوري غلبة الفقر عليه حتى اضطر إلى بيع عمامته وهو يندب ويشكو مر الشكوى بوار صناعته وكساد بضاعته وكان للصوري أخ جميل الحال ولكنه شديد الجفاء له وقد هجاه مرات.
لم يخرج الصوري من الديار الشامية بل لم يخرج من صور وما إليها إلا نادرا وذلك في أوائل شبابه إذ خرج إلى دمشق وفلسطين هذا ويكثر ذكر صيدا، وطبرية والرملة في شعره والرملة يومئذ معسكر ينزله قادة الفاطميين ونوابهم وقد اتصل بجماعة منهم ومدحهم. ولم يستطع الخروج إلى مصر أيضا مع كثرة الدواعي التي توجب إلمامه بها ومن جملتها أن مصر يومئذ بلد الفاطميين وهو يكثر من مدحهم ويتعصب لهم وينصر دعوتهم، ومن هذه الأسباب والدواعي أن مصر أيام الفاطميين اجتذبت إليها كثيرا من اعلام الفنون والآداب والفلسفة والغالب أن الفاقة وسوء تأثيرها على مزاجه هي التي أقعدته عن الأسفار وهو القائل:
حصلت بمصر همتي واستوطنت * وأفادني عدمي سواها موطنا يقول أن هواي جعل مصر موطنا لي ولكن قلة ذات يدي أكرهتني على الإقامة في بلد آخر يضاف إلى ما تقدم أن الصوري كان على جانب كبير من رقة الشعور والعطف والاحساس وهو يخشى أن تطوح أسفاره وانتجاع الأقطار البعيدة بكرامته فتراه يفضل الفقر والقلة على الغنى مع المهانة والذلة.
عجبت من نفسي ومن أنها * كأنها تكثر بالقلة تعتز بالفقر متى استشعرت * إن الغنى يؤخذ بالذلة والخلاصة كان الصوري قليل الاسفار حتى في إبان شبابه أما بعد تقدمه في السن فقد لزم صور، لزمها وهو في سن السبعين إلى أن توفي فيها سنة 419 وعمره ثمانون سنة أو أكثر وفي باب إقامته في صور وعدم خروجه منها كتب إليه محمد بن سليمان النحوي الشاعر أبياتا جاء فيها:
أ عبد المحسن الصوري لم قد * جثمت جثوم منهاض كسير إذا استحلى أخوك قلاك ظلما * فمثل أخيك معدوم النظير تحرك على أن تلقى كريما * تزول بقربه أحن الصدور فما كل البرية من تراه * وما كل البلاد بلاد صور فاجابه الصوري:
جزاك الله عن ذا النصح خيرا * ولكن جاء في الزمن الأخير وقد حدث لي السبعون حدا * نهى عما أمرت من الأمور ومذ صارت نفوس الناس حولي * قصارا عذت بالأمل القصير ميله إلى الايجاز في قصائده الصوري شاعر مطبوع على الإجادة في أكثر أبواب الشعر غزلا وتشبيبا ومديحا ورثاء ووصفا وغير ذلك وشعره من ذلك السهل الممتنع يمتاز بجمال العبارة ومتانة الديباجة مع ميل ظاهر إلى الابداع والابتكار في المعاني. وليس في قصائده طول وهو يميل فيها إلى الايجاز فجل قصائده مقطوعات قصيرة أو شبيهة بالمقطوعات وقد عيب عليه ذلك ونسب إليه العجز والحصر إما هو فقد اعتز وتباهى بمذهبه هذا في الايجاز مع البلاغة وحسن الدلالة على المعنى وهو محق في ذلك إلى هذا ونحوه مما يدل على ميل هذا الشاعر إلى تهذيب أشعاره وتنقيح آثاره وقد أشار إلى هذا المعنى مرارا من ذلك قوله في قصيدة:
لقد انفردت فكنت وحدك سامعا * وقد انفردت وكنت وحدي شاعرا ولطالما كثرت أقاويل الورى * فاتيت بالنزر القليل مكاثرا ومن قصيدة في لؤلؤ البشاري سأنظم من سميك فيك عقدا * وأترك ما تبقى للنثار فربة ما أطال الناس قولا * فطاول ذلك القول اختصاري ومن قصيدة في الأستاذ أبي الحسن بشارة:
أبا حسن رب شعر أطيل * وإن قيل اني اعتمدت اختصاره إذا ما معانيه طالت فما * يضرك أن لا تطول العبارة وله من قصيدة أطلت معانيها وقصرت نظمها * وأوردتها بكرا وتصدر أيما الصوري والمعري عاش المعري بعد الصوري ثلاثين عاما ولا شك أنهما التقيا في مكان بالشام بيد أننا لا نعلم هل كان ذلك قبل رحلة المعري إلى بغداد أم بعد ذلك وعلى كل حال فان العلاقة بين الشاعرين لم تكن وثيقة مع أنهما متعاصرين ينتميان إلى وطن واحد هو الشام ولعل ذلك لمكان الاختلاف بينهما في الخلق والرأي. وقد ادعى الصوري في الأبيات الآتي ذكرها أن المعري وافقه على القول بالبعث واليقين بالآخرة وأنه لا يميل إلى آراء الملاحدة. قال الصوري:
نجا المعري من العار * ومن شناعات وأخبار