ثم اقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونشرب الشراب ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى والله لا اقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة وكان أبو جهل في ناحية المسجد فقال كذبت والله لا تشق فقال زمعة بن الأسود لأبي جهل أنت والله اكذب ما رضينا والله بها حين كتبت فقال أبو البختري معه صدق والله زمعة لا نرضى بها ولا نقر بما كتب فيها فقال المطعم بن عدي صدق والله وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو مثل قولهم فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل وقام مطعم بن عدي إلى الصحيفة فحطها وشقها فوجد الأرضة قد اكلتها الا ما كان من باسمك اللهم فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب وفي ذلك يقول أبو طالب:
الأهل اتى نجدا بنا صنع ربنا * على نايهم والله بالناس ارفد فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وإن كل ما لم يرضه الله يفسد يراوحها افك وسحر مجمع * ولم تلق سحرا آخر الدهر يصعد فلم يزل أبو طالب ثابتا صابرا مستمرا على نصرة رسول الله ص وحمايته والقيام دونه حتى مات.
اسلام أبي طالب لما بعث النبي ص أسلم أبو طالب وآمن به وصدقه فيما جاء به ولكنه لم يكن يظهر ايمانه تمام الاظهار بل يكتمه ليتمكن من القيام بنصر رسول الله ص فإنه لو أظهره اظهارا تاما لكان كواحد من المسلمين الذين اتبعوه ولم يتمكن من نصرته والقيام دونه، وإنما تمكن من المحاماة عنه بالثبات في الظاهر على دين قريش وإن أبطن الاسلام كما لو كان لانسان شرف ووجاهه في بلد الكفر وهو مظهر الكفر ويحفظ ناموسه بينهم بذلك وفي البلد نفر يسير من المسلمين ينالون بالأذى فما دام مظهرا لمذهب أهل البلد يكون أشد تمكنا من المحاماة والمدافعة عن أولئك النفر ولو أظهر الاسلام وكاشف أهل البلد بذلك لصار حكمه حكم واحد من أولئك النفر ولحقه من الأذى والضرر ما يلحقهم فأبو طالب لو أظهر الاسلام لازدادت نفرة قريش وبغضها له أكثر مما كانت لأجل المحاماة عن ابن أخيه فقط مع بقائه على دين قومه ولارتفع حجاب المراعاة والمداراة بينه وبينهم بالكلية فينابذونه بالقتال ويتوسلون إلى قتله وقتل ابن أخيه بكل وسيلة إما ما دام مظهرا لهم أنه على دينهم فلا ييأسون من تسليم ابن أخيه لهم ويبقى لهم طمع في الأسهل منه ويعذرونه في المحاماة عن ابن أخيه بعض العذر لمكان القرابة والشفقة ولذلك كانوا لا يفترون عن طلبهم إليه ردع ابن أخيه أو تسليمه لهم وأقوى دليل على اسلامه أنه لو لم يؤمن به لهان عليه اسلامه لهم وخذلانه ولم يتحمل ما تحمله في نصره ولا نقلب حبه بغضا فالدين مفرق بين الاباء والأبناء والأحباب والأصدقاء. مع أنه قد صرح باسلامه في أشعاره الآتية المتواترة لكنه لم يكن يظهره اظهارا تاما مراعاة للمصلحة واجمع أئمة أهل البيت ع وعلماؤهم على اسلامه واجماعهم حجة وعن ابن الأثير في جامع الأصول ما أسلم من أعمام النبي ص غير حمزة والعباس وأبي طالب عند أهل البيت اه. ووافقنا على اسلامه أكثر الزيدية وبعض شيوخ المعتزلة كابي القاسم البلخي وأبي جعفر الإسكافي وغيرهما وجماعة من الصوفية حكى ذلك السيد عبد الرحمن بن أحمد الحسني الإدريسي المغزلي نزيل مكة المشرفة والمتوفى بها سنة 1087 عن جمع من أهل الكشف والشهود وحكاه عنه في الدرجات الرفيعة وأثنى عليه وقال إنه كان من أرباب الحال وأقطاب الرجال ووافقنا على ذلك جماعة من علماء أهل السنة غير من ذكر وصنفوا فيه بعض الرسائل المطبوعة لكن جمهورهم على خلافه لروايات رواها أعداء ولده أمير المؤمنين ع أو حملوا غيرهم على روايتها مراغمة له وتلقاها من بعدهم بالقبول وصادموا بها الضرورة والبديهة لحسن ظنهم بمن رواها وأورد بعضها البخاري ومسلم لحسن الظن المذكور وقد صنفوا في اثبات اسلامه مصنفات كثيرة بعضها من علماء أهل السنة كما مر وأكثرها من علماء الشيعة ومحدثيهم وتعلم كثرتها من تتبع كتب الرجال ومن مشهور ما صنف في ذلك للشيعة كتاب السيد الفاضل السعيد شمس الدين أبو علي فخار بن معد الموسوي قال المجلسي في البحار وهو من أعاظم محدثينا وداخل في أكثر طرقنا إلى الكتب المعتبرة. كما صنف غيرهم في رد ذلك قال في الدرجات الرفيعة:
ولنا في ايمانه رضي الله عنه روايات منها ما روي عن حماد بن سلمة عن ثابت عن إسحاق بن عبد الله عن العباس بن عبد المطلب قال قلت لرسول الله ص يا ابن أخي ما ترجو لأبي طالب عمك قال أرجو له رحمة من ربي وكل خير ومنها ما روي بأسانيد كثيرة بعضها عن العباس ابن عبد المطلب وبعضها عن أبي بكر بن أبي قحافة ان أبا طالب ما مات حتى قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ومنها الخبر المشهور ان أبا طالب عند الموت قال كلاما خفيا فاصغى إليه اخوه العباس ثم رفع رأسه إلى رسول الله ص فقال يا ابن أخي والله لقد قالها عمك ولكنه ضعف عن أن يبلغك صوته ومنها ما روي عن أمير المؤمنين ع أنه قال ما مات أبو طالب حتى اعطى رسول الله ص من نفسه الرضا ومنها ما روي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ع ان رسول الله ص قال أن أصحاب الكهف أسروا الايمان وأظهروا الشرك فاتاهم الله اجرهم مرتين ومنها ما روي عن محمد بن علي الباقر ع أنه سئل عما يقوله الناس أن أبا طالب في ضحضاح من نار فقال لو وضع ايمان أبي طالب في كفة ميزان وايمان هذا الخلق في الكفة الأخرى لرجح ايمانه ثم قال أ لم تعلموا أن أمير المؤمنين عليا ع كان يأمر بالحج عن عبد الله وأبيه أبي طالب في حياته ثم اوصى في وصيته بالحج عنهم ومنها ما روي أن أبان بن محمد كتب إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا ع جعلت فداك اني قد شككت في اسلام أبي طالب فكتب إليه ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين الآية ومنها روي عن زين العابدين علي بن الحسين ع أنه سئل عن اسلام أبي طالب فقال وا عجبا أن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الاسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتى مات.
وفي الإصابة اخرج البخاري في التاريخ من طريق صليحة بن يحيى عن موسى بن طلحة عن عقيل بن أبي طالب قالت قريش لأبي طالب أن ابن أخيك هذا قد آذانا فذكر القصة فقال يا عقيل إئتني بمحمد فجئت به الظهيرة فقال أن بني عمك هؤلاء زعموا انك تؤذيهم فانته عن أذاهم فقال أ ترون هذه الشمس فما انا بأقدر على أن أدع ذلك فقال أبو طالب والله ما كذب ابن أخي قط ثم قال صاحب الدرجات: قالت الامامية ومما يدل على ايمانه خطبة النكاح التي خطبها عند نكاح رسول الله ص خديجة