تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، و ما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا، ولا حزت من أرضها شبرا...
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع!! أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى!! أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القد.
أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر؟ أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش؟ الحديث. " (1) أقول: المأدبة بفتح الدال وضمها: الطعام يصنع لدعوة أو عرس. والجفان جمع الجفنة وهي القصعة. والقضم: الأكل بطرف الأسنان. والطمر بالكسر: الثوب الخلق. والتبر بالكسر: ما كان من الذهب غير مصوغ أو غير مضروب. والوفر: المال الكثير الواسع. و القمح: البر. والجشع: شدة الحرص. والبطنة: الامتلاء من الطعام. والقد بالكسر و التشديد: القطعة من الجلد غير المدبوغ.
فتأمل في هذا الكتاب الشريف، وانظر إلى سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في مطعمه وملبسه حينما كان متصديا للولاية العامة، وكان في قبضته الأموال العامة وبيت مال المسلمين، وانظر إلى أنه مع ما كان بين الكوفة والبصرة من المسافة البعيدة ولم تكن توجد في تلك الأعصار ما يوجد من المخابرات كيف كان أمير المؤمنين (عليه السلام)