صورة المواجهة والتهاجم وإعدادهم القوى لذلك أو نقضهم العهود مرة بعد مرة، كما صنع بنو قريظة ويهود المدينة. ومورد العفو والرحمة صورة الانتصار والتسلط عليهم و الأمن من هجومهم وتوطئتهم، كما لا يخفى على أهله.
وفي الغرر والدرر: " جمال السياسة العدل في الإمرة، والعفو مع القدرة. " (1) وفيه أيضا: " ظفر الكرام عفو وإحسان. ظفر اللئام تجبر وطغيان. " (2) هذا.
أقول: ويمكن أن يستفاد من أمثال هذه الوقائع، وكذا من قصة عفو أمير المؤمنين (عليه السلام) لأصحاب الجمل، بعدما ظفر عليهم وفيهم الرؤساء كمروان وعبد الله بن الزبير وأمثالهما وفي رأسهم أم المؤمنين عائشة مع ما سببوا لقتل كثير من المسلمين، أنه في موارد الحرب وقتال جيش ضد جيش وانتصار أحدهما على الآخر تكون رعاية المصالح العامة أولى وأقدم من رعاية الحقوق الشخصية الفردية، وأمر الانتقام والعفو فيها إلى الإمام، وحكم القصاص والتغريم المالي بلحاظ الحقوق الفردية إنما يجريان في الموارد الشخصية الحادثة في خلال المجتمع لا في هذه الموارد العامة التي يظفر فيها نظام على نظام، بل لعل الدليل عليهما منصرف عن أمثالها.
فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عفا عن مشركي مكة وهم قد شاركوا في إراقة دماء المسلمين في بدر وأحد وغيرهما من المعارك، وعفا عن مثل وحشي قاتل عمه حمزة من غير أن يسترضي فيه بنت حمزة ووراثه، وعفا عن مالك بن عوف المسبب لقتل كثير من المسلمين في هوازن.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) عفا عن أصحاب الجمل وقد قال فيهم على ما في نهج البلاغة:
" فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها فقتلوا طائفة صبرا وطائفة غدرا. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك