أقول: الظاهر أن ما كان منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا مع عيينة والحارث لم يكن إلا مجرد المقاولة و المفاوضة، ولم يكن غرضه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا حفظ كيان الأنصار وحقن دمائهم، فلما رأى قوتهم وشدة بأسهم أحال الأمر إليهم. فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخلف وعدا جازما ولا أقدم على ما لا يصح، بل أخذ بعد المشاورة بما ظهر كونه أصلح.
وكيف كان فالظاهر كما مر أن عمدة مشاورة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم وإظهار الاعتماد عليهم، تقوية لعزمهم وتحركهم، وإلا فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان متصلا بمنبع الوحي وكان الحق واضحا له. فما كان استشارته (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته إلا وزان استشارة الله إياه: ففي مسند أحمد، عن حذيفة، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إن ربي - تبارك وتعالى - استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئت أي رب، هم خلقك وعبادك.
فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك في أمتك. الحديث. " (1) الخامس في قصة الحديبية:
ففي سنن البيهقي بسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا:
خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زمن الحديبية في بضع عشرة مأة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة، وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش.
وسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان بوادي الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت.