في تسجيل هذا التاريخ إلى مصادر معروفة وأحداث مكتوبة تكون المادة الأولى للمؤرخ الذي يأخذ على نفسه القيام بهذا العب ء.
وكان سلاطين المغول يحتفظون في خزائنهم بوثائق مكتوبة بلغتهم فيها تدوين لكثير من وقائعهم، كما كان كثير من الأسر المغولية العريقة يحتفظ بمثل هذه الوثائق. وكان كل ذلك يحتاج إلى من ينظمه وينسقه ويستخلص منه الحقائق، ويخرج منه أصولا لتاريخ يمكن أن يدون.
واهتم غازان بهذا ونضجت الفكرة في ذهنه فعمل على تحقيقها، ولم يكن في بلاطه أفضل من رشيد الدين من يمكن أن يعهد إليه بانجاز تاريخ المغول وتدوينه. فاودع لديه كل ما كان تحت يده من وثائق وعهد إليه باستطلاع ما يمكنه استطلاعه من المدونات الأخرى أو الروايات غير المعروفة.
فقام رشيد الدين بالمهمة على أفضل وجوهها وعكف على انجازها بقدر ما تسمح له به ظروف اضطلاعه بشؤون الإدارة والحكم.
ولما أوشك الكتاب على التمام كان غازان قد توفي 703 1307 وورث رعشة أخوه الجايتو خدابنده فلم يكن أقل اهتماما من أخيه بانجاز هذا التاريخ، بل زاد عليه بان طلب إلى رشيد الدين أن يشير إلى الشعوب التي اتصل بها المغول ويعرض لتاريخها وأن يضيف إلى ذلك دراسة شاملة لكل الشعوب.
ولم تأت سنة 710 1310 حتى كان الكتاب قد انتهى مكتوبا باللغة العربية واللغة الفارسية باسم جامع التواريخ وأودع مكتبة المسجد الذي كان رشيد الدين قد بناه في مدينة تبريز.
ويصف كاترمير الكتاب قائلا: الواقع أن تاريخ رشيد الدين قد اعتمد في تاليفه على فحص الوثائق الوطنية الصحيحة المحفوظة في سجلات الإمبراطورية والمذكرات التي في حوزة الأسر الكبيرة وقام بتاليفه رجل صادق حي الضمير، وبذلك يكون قد توفرت له كل مقومات الصدق.
وينقل كاترمير عن المخطوطة العربية وصفا لمنهج رشيد الدين وطريقته في التدوين بقلم رشيد الدين نفسه: أستطيع أن أشهد لنفسي باني لم أدخر أي احتياط أو جهد في تحري الحقيقة والامتناع عن كتابة كل ما هو زائف أو مشكوك فيه. وقد اقتبست دون أي تغيير ما انطوت عليه أصدق الوثائق الخاصة بكل شعب، والروايات التي حازت أحسن التقدير والمعلومات التي استقيتها من أعلم الرجال في كل قطر. وفتشت كتب المؤرخين ورجال الأنساب. وحققت هجاء اسم كل أمة وكل قبيلة.
الواقع أننا نستطيع أن نعد ميزة التجرد أولى الميزات التي اتصف بها رشيد الدين في تاريخه، وأن نوقن بأنه سعى وراء الحقيقة سعيا مخلصا شجاعا، ولم يراع جانب المغول وهو يتحدث عما في تاريخهم من فظائع، وكان كما قال عنه كاترمير: إذ كان يبدو في كتابه مسلما صادق الاسلام، فانا نراه من جهة أخرى يتجنب الاطراء غير المجدي ويتمسك دائما بنزاهة في الرأي تستحق كل إجلال، ولا سيما إذا كانت من مؤرخ.
ويقول أيضا: يذكر دون مواربة ولكن دون مبالغة أيضا ضروب القسوة الشنيعة التي ارتكبها هذا الشعب المغولي وتخريب أعظم المدن وأكثرها إزدهارا وتذبيح السكان العديدين دون قلق أو ندم، كما يصور بهدوء وتحفظ ضروب التجديف التي قاموا بها في مساجد بخارى وغيرها من المدن، حيث مزقوا المصاحف وألقوا بها أرضا وصنعوا من أغلفتها الثمينة مذاود لخيلهم.
مجلدات الكتاب يشتمل كتاب جامع التواريخ على أربعة مجلدات: الأول: يتعلق بتاريخ المغول المشتمل على تاريخ القبائل التركية المغولية وأجداد جنكيز، ثم جنكيز نفسه ومن بعده خلفاؤه حتى غازان. والثاني: يتعلق بتاريخ الفرس قبل الاسلام، ثم التاريخ الاسلامي إلى سقوط بغداد، ثم الأمم التي اتصل بها المغول في فتوحاتهم، والثالث: يشتمل على ابعد عصور التاريخ حتى آخر خلفاء بني العباس. والرابع: يشتمل على تفصيل حدود الأقاليم السبعة وولايات ممالك العالم.
على أن كاترمير يقول: لدينا الجزء الأول من كتاب رشيد الدين وهو الجزء الخاص بتاريخ المغول. وأنه الكتاب الوحيد الذي نستطيع العثور فيه على أصدق المعلومات عن حياة جنكيز خان وخلفائه وعن عهودهم.
ثم يتساءل كاترمير: هل الأجزاء الثلاثة الأخرى قد ضاعت دون أمل في العثور عليها؟ وكان في نية كاترمير تحقيق أكثر ما يمكنه تحقيقه من المجلد الأول ولكنه لم يستطع تحقيق سوى القسم الخاص بهولاكو ونشره بالفرنسية مع مقدمة نفيسة طويلة سنة 1836.
ويقول يحيى الخشاب: إن حديث كاترمير عن جامع التواريخ قديم، وقد جد الكثير عنه سواء من ناحية اكتشاف أجزاء منه لم تكن قد عثر عليها أيام كاترمير أو من ناحية النشر.
ومن أمثلة ذلك الطبعة التي صدرت سنة 1858 وهي قسم من الجزء الأول متعلق بأجداد جنكيز وتاريخ جنكيز نفسه. وكان اخراج آخر جزء من هذا البحث سنة 1888 باللغة الفارسية مع الترجمة الروسية وقد أخرج هذه الأجزاء المستشرق الروسي برزين.
كما صدر بعد ذلك ابتداء من أوائل هذا القرن أكثر من قسم من المجلد الأول كهذا الذي نشره المستشرق الفرنسي بلوشيه سنة 1911 والذي نشر في إيران سنة 1937 والذي نشره المستشرق التشيكسلوفاكي كارل سنة 1940 وكذلك سنة 1941.
وهكذا يمكن القول أن المجلد الأول من جامع التواريخ قد نشر كله. كما نشر كارل يأن سنة 1951 القسم المتعلق بالفرنج من المجلد الثاني.
في اللغة العربية كان عبد الوهاب عزام أول من دعا في العرب لنشر جامع التواريخ وترجمته وألقى عام 1947 محاضرة في الجمعية الجغرافية عن رشيد الدين تحدث فيها عن كتابه وضرورة القيام بنشر القسم العربي منه