غازان الذي ولي الملك سنة 694 ه 1295.
ونحن نعلم أن أول من أسلم من ملوك المغول هو تكودار بن هولاكو الذي ولي الملك بعد أخيه اباقا خان وتسمى بأحمد. وكان أباقا خان قد عهد بالملك إلى ابنه أرغون. ولكن آل الجويني ومن والاهم من الأمراء والقواد لم يدعوا أرغون يتولى الملك ونادوا بتكودار ملكا سنة 680 ولم يطل الأمر أكثر من ثلاث سنين حيث استطاع أرغون التغلب على عمه الأمير أحمد تكودار وقتله وتولى الملك بعده. وفي عهد ارغون انتعشت الوثنية من جديد كما اشتد نفوذ اليهود. وبعد ارغون تولى ابنه غازان الذي كان أول ملك مغولي يؤدي الصلاة في المساجد الجوامع فيحذو حذوه الأمراء والكبراء وجمهرة الشعب المغولي. وكانت صلة رشيد الدين بغازان في أول أمرها صلة علمية بحتة. وكان السلطان يغتنم فرصة لقائه برشيد الدين ليذاكره في مبادئ الاسلام وتفسير القرآن ويستوضحه ما خفي عليه من شؤون الدين، وليجول معه في أمور العلم والفكر.
ثم ولاه المنصب الأول في الدولة وجعله وزيرا له، بعد مقتل الوزير السابق صدر الدين الزنجاني، الذي أودى به سعيه برشيد الدين عند غازان ومحاولة الايقاع به لديه، فادى ذلك إلى مقتله وإحلال رشيد الدين محله عام 697 ه 1297 م وأشرك معه في الوزارة سعد الدين الساوجي.
ثم مات غازان وتولى الحكم بعده أخوه الجايتو خدابنده فحفظ للوزيرين منصبيهما وظلت لرشيد الدين نفس المنزلة التي كانت له عند غازان.
وكما حيكت له الدسائس لدى غازان أخذت الدسائس تحاك له ولزميله سعد الدين لدى خدابنده فنجا منها رشيد الدين مرارا في حين أنها أدت إلى مقتل زميله سعد الدين وإحلال علي شاة محله الذي أخذ يدس على رشيد الدين دون أن ينجح في دسائسه. ومات الجايتو خدابنده ورشيد الدين على مكانته، وتولى بعد خدابنده ولده أبو سعيد والتنافر بين الوزيرين على أشده ودسائس علي شاة لدى أبي سعيد تتوالى حتى نجح في حمل السلطان على إقصائه عن الوزارة سنة 717 ه 1317 م. على أن مساعي أصدقائه أعادته من جديد إلى الوزارة بعد أن تردد وأحجم، و لكن هذه العودة كانت السبب في وصوله إلى نهاية المحنة. إذ اتهمه زميله علي شاة بأنه سمم السلطان خدابنده وبعد مناقشات طويلة اقتنع أبو سعيد بان رشيد الدين إن لم يسمم أباه فهو على الأقل وصف له دواء كان السبب في موته. وبالرغم من أن التهمة كانت واهية فقد سيطرت على أبي سعيد فامر بان يقتل رشيد الدين وأن يقتل معه ولده اليافع إبراهيم الذي لم يكن قد تجاوز السادسة عشرة من عمره بدعوى أنه هو الذي ناول الدواء بنفسه للسلطان، فقتل ولده أمام عينيه ثم قتل هو سنة 718 ه 1319 م وقد بلغ الثالثة والسبعين من عمره.
ولم يلبث بعد ذلك أبو سعيد أن أدرك أنه كان مخطئا فيما أجراه على رشيد الدين وولده، وشاء أن يكفر عما فعل فاستدعى غياث الدين أحد أولاد رشيد الدين وعهد إليه بالمنصب الذي كان يشغله أبوه في الوزارة.
الربع الرشيدي أنشأ رشيد الدين في تبريز ضاحية أطلق عليها اسم الربع الرشيدي وعني بها عناية فائقة. على أن أكثر ما يمهنا من تلك الضاحية أنه أنشأ فيها مكتبة حافلة جمع فيها من صنوف الكتب ما قل أن يجتمع مثيله في مكتبة.
وكانت تحتوي على ما لا يقل عن خمسين ألف مجلد.
ولما نكب وقتل كان من أفجع أثار النكبة إحراق تلك المكتبة بكل ما فيها. ولدينا الكثير من الكتب التي لم يصلنا إلا اسمها وكانت فيما تحويه مكتبة الربع الرشيدي وذهبت كلها طعمة للنار. ويكفي أن نذكر منها مؤلفات ابن الفوطي وحدها.
المثقف المسلم والعالم العالمي هذا تلخيص لحياة رشيد الدين السياسية، وهي حياة مهما كان قد أوتي فيها من كفاءة وتفوق في حسن تصريف الأمور، ومهما كتب له من النجاح في ميادينها، فهي على كل حال حياة كحياة كل السياسيين المتفوقين منهم وغير المتفوقين، الذين لا يلبث اسمهم أن يضيع في طيات الزمن ويختفي في أغوار الدهر. ولو كانت هذه الحياة هي كل ما كان لرشيد الدين لما وجد من يشغل نفسه بها ويلفت قراءة إليها.
ولكن لرشيد الدين حياة أخرى هي التي تعنينا في هذا البحث، وهي التي عنت قبلنا غيرنا من الكاتبين: هي حياة العالم المفكر المؤرخ، وهي حياة أكسبت رشيد الدين الخلود، وجعلته من أحياء الذكر على طول الدهر.
يقول المستشرق الفرنسي كاترمير في مقدمته التي كتبها لكتاب جامع التواريخ: إذا غضضنا النظر عن الطب الذي أقبل رشيد الدين على تعلمه منذ زمن مبكر، وعن شتى فروع المعرفة الأخرى التي ترتبط بهذا العلم برباط مباشر، وجدنا أنه أيضا لم يهمل دراسة الزراعة والهندسة والميتافيزيقا واللاهوت. وكان يحيط إحاطة تامة بكثير من اللغات وهي:
الفارسية والعربية والمغولية والتركية والعبرية وربما الصينية.
ويقول عنه أيضا كان مولعا بالمعرفة أشد الولع فاستطاع رغم كل هذه المشاغل والموانع أن يجد لنفسه الوسيلة لمعالجة الآداب والعلوم والإحاطة بالدين الاسلامي إلى أعمق حد.
والواقع أن رشيد الدين كان يمثل المسلم المثقف، الرفيع الثقافة كما كان يمثل العالم العالمي، بأوسع ما تعنيه هذه الكلمات من معنى. ولو لم تشغله السياسة، ولو لم يغره الحكم لكان له من الشأن فوق الذي كان. إذ أنه لم يعط الجانب الثقافي إلا بعض العطاء ومع ذلك فقد كان له فيه مثل الذي رأينا.
وإذا كان لرشيد الدين من الكتب مثل التوضيحات ومفتاح التفاسير والرسالة السلطانية والإحياء أو الآثار ولطائف الحقائق وبيان الحقائق، فلا شك أن قمة أعماله التأليفية هي ما كتبه في التاريخ في كتابه جامع التواريخ.
قصة جامع التواريخ يعود الفضل بالدرجة الأولى في تاليف هذا الكتاب إلى السلطان غازان الذي شاء أن يكون للمغول تاريخ مكتوب. وكان لا بد في الرجوع