ومن المعروف انه نشأ بالكوفة، ونال مركز الصدارة بين علمائها، ثم رحل إلى بغداد حيث استفاضت شهرته فيها، وعرف له الخليفة المهدي هذه المكانة فأسند إليه مهمة تثقيف ولده الرشيد، ولما تولى الرشيد الخلافة عهد إليه بمهمة تأديب ولديه: الأمين والمأمون، فقام الكسائي بأداء المهمة على خير وجه، إذ رفعه الرشيد بعدها من طبقة المعلمين والمؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤنسين.
ومن العجيب ان الرجل الذي وصل إلى هذه المنزلة، قضى شبابه كله وصدرا من كهولته، وهو ابعد الناس عن العلم، ولو أن عرافا أسر إليه بأنه سيصبح من أئمته في المستقبل لظنه يسخر منه أو يهزأ به، ولكن الذي حدث ان الكسائي، وكان يذهب كثيرا لمجالسة صديق له من العلماء، ذهب ذات مرة إلى صديقه هذا، وهو في حال شديدة من التعب والارهاق، فلما سأله الرجل عن حاله، قال الكسائي: لقد عييت، فاظهر الرجل اشمئزازه وسخطه من هذه الكلمة وقال له: أ تجالسني وأنت تلحن؟
فقال الكسائي كيف لحنت؟ فقال له: ان كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الامر، فقل: عييت مخففا، وان كنت أردت من التعب، فقل: أعييت.
فانف الكسائي من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك، فسال:
من يعلم النحو؟ فارشدوه إلى معاذ بن مسلم الهراء، فلزمه حتى أنفذ ما عنده.
ثم لم يكتف الكسائي بما اخذه عن أستاذه من علم كان كفيلا على التحقيق الا يجعله يقع فيما استنكفه من نفسه من لحن. يبدو ان نفسه قد تفتحت للعلم، وطمح بامله إلى بلوع مرتبة أعلى من مرتبة الذين اخذ بعضهم عليه زلة الوقوع في اللحن، فرحل إلى البصرة حيث جلس في حلقة الخليل بن أحمد، وقد أدهشه ما يتمتع به الخليل من وفرة العلم واتساع المعرفة، فسأله في لحظة من لحظات اعجابه به مأخوذا: من أين أخذت علمك هذا؟ فأجاب الخليل: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، وسرعان ما كان الكسائي يشد رحاله إلى تلك البوادي، يسمع عن اعرابها من غريب اللغة ونوادرها ما انفذ في كتابته خمس عشرة قنينة حبر، سوى ما حفظ، ورجع بعد ذلك إلى الكوفة، وقد وعى من العلم الشئ الكثير.
ثم رحل الكسائي إلى بغداد تسبقه شهرته كعالم فذ من علماء اللغة، وكان عليه لكي يقرر هذه الحقيقة ويزيدها تأكيدا ان يخوص كثيرا من المناظرات اللغوية التي كان يخرج منها كلها غالبا منتصرا.
ولعل أشهر مناظرة خاضها الكسائي في بغداد، هي تلك المناظرة المعروفة، التي جرت بينه وبين سيبويه امام النحاة البصريين، على مشهد من العلماء في محفل البرامكة، وهي تتلخص في ذلك السؤال الذي وجهه الكسائي إلى سيبويه قائلا: كيف تقول: كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: أقول: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب، فقال له أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه.
وحينئذ أصر سيبويه على رأيه، وصمم الكسائي على ورود الوجهين.
وكان ان استدعى يحيى بن خالد البرمكي الاعراب الواقفين على بابه لتحكميهم في الامر، فشهدوا ان القول ما قاله الكسائي.
هذه هي خلاصة المناظرة الشهيرة التي كان من نتيجتها ان ترك سيبويه بغداد، ورحل إلى قريته البيضاء في فارس، ثم لم يلبث بعد ذلك ان مات وهو في ريعان رجولته حزينا آسفا.
لا شك ان ما مني به الرجل من فشل، ثم انزواءه وموته، كان لهما أكبر الأثر في اعطاء هذه المناظرة أكثر مما تستحق من نقاش وجدل، فقد انبرى أنصار سيبويه لمهاجمة الكسائي والحط من شانه، فاتهموه بالجهل، وقالوا ان هذه المناظرة لم تكن الا تمثيلية مرتبة احكم وضعها مع الاعراب الذين شهدوا معه وقبضوا ثمن شهادتهم قبل الأدلاء بها، وان الكسائي خشي على مكانته من خصمه ففعل ذلك وهو يعلم أن الحق ليس معه. إلى غير ذلك من التهم التي يطول بنا الامر لو أوردناها، وأوردنا الردود عليها.
والواقع ان الرجل كما يتضح من تاريخ حياته العلمية يبدو أكبر من أن يسلك هذا المسلك في سبيل النيل من خصمه، وقد أدلى في مناظرته معه بما كان يعتقده صوابا، وبما صح لديه من كلام العرب حتى قبل ان يعرف ان ثمة مناظرة ستجري بينهما في يوم من الأيام. ونظرة إلى مذهب مدرسة الكوفة في النحو توضح لنا الرأي الذي أدلى به الكسائي، فمن المعروف ان مذهبهم في اللغة يقوم على الفسحة والتوسع فيها، ولهذا فهم مثلا يعتبرون الشاذ والضرورة من كلام العرب ليسا خطا وان كانا قليلين ويجيزون القياس عليهما بناء على ذلك، على حين ان مدرسة البصرة التي يمثلها سيبويه تتشدد في ذلك وتأبى الاعتراف بغير المتواتر الكثير الورود من الكلام، وما عداه خطا لا يجوز القياس عليه، وقد أدلى كلا الرجلين بما يؤمن به وما صح عنده من غير حاجة إلى تواطؤ من الكسائي مع الاعراب لتقرير شئ لم يرد في كلام العرب اختلافا وكذبا، وكيف هو الذي شهد له معاصروه بالصدق والعلم. يقول ابن الأعرابي: ما جربت على الكسائي في كذبه قط.
بعد المناظرة التي جرت بين الكسائي وسيبويه، يمكننا ان نقول: إن سيبويه كان ولا شك آخر الشخصيات العظيمة التي ناظرها الكسائي، فقد كان أنبغ من أنجبتهم البصرة من رجالها بعد الخليل، وحسبه مكانة انه صاحب الكتاب الذي لم يؤلف في العربية أتم ولا أكمل منه حتى الآن.
وقد عاش الكسائي بعد ذلك علما شامخا معترفا بنبوغه ووفرة علمه من علماء عصره جميعا. ويتضح ذلك بجلاء من قصة مناظرة، لعلها اخر مناظرة جرت بينه وبين أحد من العلماء وهو الفراء.
يقول الفراء: مدحني رجل من النحويين فقال في: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فاتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائرا يغرف من البحر بمنقاره.
الشيخ علي ابن الشيخ حميد بالتصغير ابن الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر.
توفي يوم الأربعاء سابع المحرم سنة 1317 اخذ عن الشيخ مرتضى الأنصاري ثم عن تلميذه السيد حسين الترك وكان من وجوه تلامذته وهو