لباقة في التنويع والتلوين... وفي شعر الحلي حرارة وحيوية يفتقر إليها شعر ابن نباتة... (1) نظرة في شعره ثم يسترسل الراوي في الحديث عن شعره فيقول:
من طبيعة الشاعر العربي لا سيما في الماضي البعيد ان يفخر بنسبه وعشيرته وشجاعته وبما يتحلى به من المواهب، فكانه، يريد بذلك، ان يشعر ممدوحه انه ليس انسانا طفيليا لا هم له الا ان يعيش على صدقات المحسنين الذين رفعتهم الاقدار إلى مستوى البذل والعطاء، وانما هو انسان له كرامته وعزته وله من كريم محتدة بحبوحة تنعم بها روحه ويشفى جسده...
وليس كل الشعراء سواسية في هذا الشعور وهذه المنزلة من الاحساس الوثاب، فبعضهم طفيلي لا هم له غير أن يستجدي، وليس صفي الدين من هؤلاء على اي حال... فقد من الله عليه بكرم المحتد وصفاء المعدن وشجاعة القلب وعلو الهمة، إلى غير ذلك من الصفات التي يتحلى بها كبار النفوس عادة. فكيف لا يفخر، وهو ينعم في بحبوحة من هذه الفضائل. ومن طبيعة الشاعر ان يندفع، في صباه، في التغني بماثر ذاته، مندفعا مع أحلامه الباسقة وأمانيه الفسيحة، وخير ما يشير إلى هذه الحقيقة هو بائية صفي الدين التي يقول فيها:
لئن ثلمت حدي صروف النوائب * فقد أخلصت سبكي بنار التجارب وفي الأدب الباقي الذي قد وهبنني * عزاء من الأقوال عن كل ذاهب فكم غاية أدركتها غير جاهد * وكم رتبة قد نلتها غير طالب وما كل وان في الطلاب بمخطئ * ولا كل ماض في الأمور بصائب سمت بي إلى العلياء نفس أبيه * ترى أقبح الأشياء اخذ المواهب بعزم يريني ما أمام مطالبي * وحزم يريني ما وراء العواقب وما عابني جاري سوى ان حاجتي * أكلفها من دونه للأجانب وان نوالي في الملمات واصل * أباعد أهل الحي قبل الأقارب وليس حسود ينشر الفضل عائبا * ولكنه مغرى بعد المناقب والقصيدة طويلة تقع في خمسين بيتا وكل بيت منها مثقل بهذا الفخر الصارخ، والقصيدة هذه، انما تتحدث عن كمي لا عن صبي، الا إذا أراد الصبي ان يتشبه بالكمي المغوار. وهي والحالة هذه تصور واقع عنترة العبسي أكثر من تصويرها لواقع صفي الدين في صباه...
إما نونيته الشهيرة التي يقول في مطلعها:
سلي الرماح العوالي عن معالينا * واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا فقد اعترف بروعتها أعداء صفي الدين وأنصاره على السواء. وما ذكر صفي الدين، في مجال الحسنات، الا وذكرت هذه القصيدة. ولم تحظ بهذا العز ولم تظفر بهذا الذيوع الا لأنها تصور حالة نفسية عنيقة عاشها الشاعر، وترسم، بسطور من لهب تجربة اكتوى الحلي بنارها، فقد أسلفت القول إن آل أبي الفضل قتلوا خال شاعرنا الحلي غدرا في المسجد وحين اخذ قومه بثاره تنفس صفي الدين الصعداء وأطلق حمم براكينه في فضاء الفخر والثار. وليس في هذه القصيدة فخر أجوف بالرغم من ورود بعض المبالغات التي كان يجيزها شعراء ذلك الزمان كقوله:
إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة * وان دعوا قالت الأيام آمينا وفي هذه القصيدة، إلى جانب التشبث بالفخر والاعتزاز بالنصر، اعتزاز بقيم أخلاقية عربية سامية كقوله:
قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة * يوما وان حكموا كانوا موازينا وان قوما هذا شأنهم في الحياة، انما يتدرعون، في الصفو، بجلباب العقل والنظام والسماحة. حتى إذا استخصموا وأثيروا أبوا ان يكونوا من العقلاء الجبناء، وآثروا كرامة العاطفة المشتعلة على تحفظات العقل: تردعوا العقل جلبابا فان حميت نار الوغى خلتهم فيها مجانينا قلت إن بعض أبيات هذه الخريدة تصور الخلق العربي الأصيل ومن ذلك قوله:
انا لقوم أبت اخلاقنا شرفا * ان نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا وهذا البيت يصور الخلق العربي الاسلامي أروع تصوير ويميز الخلق العربي بعد الاسلام من قبله، فقد كانت الآية معكوسة في الجاهلية عندما كان الشاعر الجاهلي يقول:
وأحيانا على بكر أخينا * إذا ما لم نجد الا أخانا وهذا خلق الغزو والإيذاء الذي نهت عنه الشريعة الاسلامية الغراء. وكأني بصفي الدين، وقد اعطى قومه ما يستحقون من ثناء طيب النشر، أحسن ببخله على نفسه بمثل هذا الثناء أو بعضه، وهو الذي لم يكن مكتوف اليدين عندما التحم الخصمان، فجاءنا بلامية تحدث في أغلب أبياتها عن دوره البطولي في المعركة، ومما قاله عن نفسه:
لما دعتني للنزال أقاربي * لباهم عني لسان المنصل وأبيت من أني أعيش بعزهم * وأكون عنهم في الحروب بمعزل وافيت في يوم أغر محجل * أغشى الهياج على أغر محجل ثار العجاج فكنت أول صائل * وعلا الضرام فكنت أول مصطل فغدا يقول كبيرهم وصغيرهم * لا خير فيمن قال إن لم يفعل...
والظاهر أن شاعرنا الحلي لا يكتفي بما نظم في قصيدتيه السالفتين، في مجال الفخر والاعتزاز بدليل انه راجع قصائد الفخر والاعتزاز عند العرب فأعجبته عينية قطري ابن الفجاءة فسمط أبياتها على النحو التالي:
ولما مدت الأعداء باعا * وراع النفس كسرهم سراعا برزت وقد حسرت لها القناعا * أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لا تراعي