النفوس. وقد كان مولعا بالسياحة والاسفار في جميع البلدان والأقطار فشاهد الأمور بنفسه ولم يكتف بالنقل كما أشار إليه في مقدمة مروج الذهب أيضا فقال: من تقاذف الاسفار وقطع القفار تارة على متن البحر كقطعنا بلاد السند والزنج والصنف والصين والرانج وتقحمنا الشرق والغرب فتارة بأقصى خراسان وتارة بأوساط أرمينية وأذربيجان والهرات والطالقان وطورا بالعراق وطورا بالشام فسيري في الآفاق سرى الشمس في الاشراق كما قال بعضهم:
ييمم أقطار البلاد فتارة * لدى شرقها الأقصى وطورا إلى الغرب سرى الشمس لا تنفك تقذفه النوى * إلى أفق ناء يقصر بالركب قال ولكل إقليم عجائب يقتصر على علمها أهله وليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الاخبار عن إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار ووزع أيامه بين تقاذف الاسفار واستخراج كل دقيق من معدنه وإثارة كل نفيس من مكمنه. ويدل على تبحره في التاريخ كثرة ما جمعه واطلع عليه من مشهورات كتب التواريخ فقد ذكر في مقدمة مروج الذهب أسماء ما يزيد على 85 مؤرخا نقل عن كتبهم وقرأها وجملة منهم تصانيفهم في التاريخ متعددة. وقال لم نذكر من كتب التواريخ والاخبار والسير والآثار الا ما اشتهر مصنفوها وعرف مؤلفوها ولم نتعرض لذكر كتب تواريخ أصحاب الأحاديث في معرفة أسماء الرجال واعصارهم وطبقاتهم إذ كان ذلك أكثر من أن نأتي على ذكره في هذا الكتاب ومنها الفقه فستعرف ان من مؤلفاته فيه كتاب المواهب في الاحكام اللوازب، فالظاهر أنه واجبات الشرع وكتاب القضايا أو القضاء وكتاب التجارات على بعض النسخ ومنها الذكر والدعاء فستعرف انه ألف فيه كتابا ومنها علم الأخلاق فسيأتي ان له فيه الكتاب المسمى بطب النفوس.
وبعد فراغنا من كتابة هذه الترجمة عثرنا على كتابه التنبيه والاشراف المطبوع بمصر ورأينا مصححه الأستاذ عبد الله إسماعيل الصاوي المصري قد ترجم المؤلف بترجمة استغرقت ثماني صفحات.
أخباره قد عرفت انه لم يصل إلينا من اخباره الا النزر اليسير ويقول الأستاذ الصاوي المار ذكره ولم يذكر ماخذه انه خرج عن بغداد سنة 301 ليقوم برحلة قيل إنها استمرت ثلاثة أعوام أقضاها متنقلا بين فارس وكرمان ثم بعد ان جاب بلاد الهند وصيمور قطن أخيرا في بومباي إلى سنة 304 قال:
وهو يحدثنا انه كان في سنة 314 في فلسطين وفي أنطاكية وقال إنه في سنة 336 تم تاليف مروج الذهب في فسطاط مصر وكان قد ابتدأ تاليفه سنة 332 وذكر انه في سنة 344 كان يشتغل بوضع النسخة الأولى من كتاب التنبيه والاشراف في الفسطاط بمصر ثم في سنة 345 زاد فيها واصلحها اه.
ومن اخباره ما ذكره في مروج الذهب عند ذكر البحر الحبشي وهو بحر الهند بما هذا لفظه: وقد ركبت انا هذا البحر من مدينة سنجار وهي قصبة بلاد عمان مع جماعة نواخذة السيرافيين واخر مرة ركبت فيه في سنة 304 من جزيرة قنبلو إلى مدينة عمان وقد ركبت عدة من البحار كبحر الصين والروم والخزر والقلزم واليمن وأصابني فيها من الأهوال ما لا أحصيه كثرة فلم أشاهد أهول من بحر السند وفيه السمك المعروف بافال طول السمكة نحو من 400 ذراع بالذراع العمرية والأغلب من هذا السمك طوله مائة باع وربما يظهر شيئا من جناحه فيكون كالقلع العظيم وربما يظهر رأسه وينفخ الصعداء بالماء فيذهب في الجو أكثر من ممر السهم فإذا بغت هذه السمكة بعث الله عليها سمكة نحو الذراع تدعى السل فتلتصق بأصل أذنها فلا يكون لها منها خلاص فتطلب قعر البحر وتضرب بنفسها حتى تموت فتطفو فوق الماء فتكون كالجبل العظيم.
وقال كان دخولي إلى بلاد المولتان بعد الثلاثمائة والملك بها أبو الدلهان المنبه بن أسد القرشي وكذلك كان دخولي إلى بلاد المنصورة في هذا الوقت والملك عليها أبو المنذر عمر بن عبد الله.
ودخل بلاد الشحر من بلاد حضر موت كما يدل عليه قوله في مروج الذهب: ووجدت أهل الشحر من بلاد حضر موت وساحلها وهي تسعون مدينة يستظرفون اخبار النسناس الخ.
وقال المسعودي في مروج الذهب: رأيت في بلاد سرنديب وهي جزيرة من جزائر البحر، ان الملك من ملوكهم إذا مات سير على عجلة قريبة من الأرض.
وكان المسعودي في عصر معز الدولة أحمد بن بويه وأخيه ركن الدولة الحسن بن بويه واخيهما عماد الدولة علي بن بويه كما ذكره في أواخر مروج الذهب. وقال في مروج الذهب:
أوسط الأقاليم الإقليم الذي ولدنا به وإن كانت الأيام أنات بيننا وبينه وولدت في قلوبنا الحنين إليه إذ كان وطننا ومسقطنا وهو إقليم بابل وقد كان هذا الإقليم عند ملوك الفرس جليلا وقدره عظيما وكانت عنايتهم إليه مصروفة وكانوا يشتون بالعراق في الفصول إلى الصرود من الأرض والحرور وقد كان أهل المروءات في الاسلام كابي دلف القاسم ابن علي العجلي وغيره يشتون في الحرور وهو العراق ويصيفون في الصرود وهي الجبال وفي ذلك يقول أبو دلف:
واني امرؤ كسروي الفعال * أصيف الجبال وأشتو العراقا ولما خص به هذا الإقليم من كثرة مرافقه واعتدال ارضه وغضارة عيشه ومادة الرافدين إليه وهما دجلة والفرات وعموم الأمن فيه وبعد الخوف عنه متوسطة الأقاليم السبعة كانت الأوائل تشبهه من العالم بالقلب من الجسد لأن ارضه من إقليم بابل الذي تشعبت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يقع ذلك عن القلب وبذلك اعتدلت ألوان أهله وأجسامهم فسلموا من شقرة الروم والصقالبة وسواد الحبشة وغلظ البربر ومن جفا من الأمم واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار وكما اعتدلوا في الجبلة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بمحاسن الأمور وأشرف هذا الإقليم مدينة السلام ويعز علي ما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا وفي قاعته تجمعنا لكنه الزمن الذي من شيمته التشتيت ولقد أحسن أبو دلف العجلي حيث يقول:
أيا نكبة الدهر التي طوحت بنا * أيادي سبأ في شرقها والمغارب