وقد نظر النابغة في هذه المعاني إلى قول الله تعالى: خذ العفو واؤمر بالعرف واعرض عن الجاهلين والى قول رسول الله ص: ليس الشديد بالصرعة وانما الشديد من يملك نفسه عند الغضب ويعجب النبي الكريم بفهم النابغة وهو البدوي لمفاهيم الاسلام، ويدعو له بقوله:
أجدت، لا يفضض الله فاك، ويقول الرواة: ان النابغة عاش مائة وثلاثين سنة لم تنفض له ثنية.
وفي القصيدة ما يشير إلى أن النابغة شارك في الفتوح الاسلامية وجاهد في سبيل الله، وانشد الشعر بحث المسلمين على الثبات والايمان والقوة.
ويبدو انه ابان اقامته في المدينة اشتاق إلى البادية وزيارة قبيلته وأهله، فدخل على عثمان بن عفان في خلافته يستأذنه ويودعه قائلا:
استودعك الله قال: وأين تريد يا أبا ليلى قال: الحق بابلي فاشرب من ألبانها فاني منكر لنفسي فقال عثمان: أ تعربا بعد الهجرة يا أبا ليلى؟ أ ما علمت أن ذلك مكروه؟ قال: وما علمته وما كنت لأخرج حتى أعلمك.
فاذن له عثمان وأجل له في ذلك اجلا. وقبل رحيله دخل بيت علي بن أبي طالب ع، وكان محبا له مائلا إليه يودعه، فوجد الحسنين الحسن والحسين ع فودعهما فقالا له: انشدنا من شعرك يا أبا ليلى، فانشدهما قوله:
الحمد لله لا شريك له * من لم يقلها فنفسه ظلما وفي هذه الفترة من خلافة عثمان يسكن البصرة، ويكون له مع أبي موسى الأشعري عامل البصرة من قبل عثمان احداث ومواقف ويقول في ذلك شعرا.
ولما كانت الحرب في صفين، انحاز النابغة إلى علي ع وقاتل مع جنده وكان يقول الشعر يمدح عليا ويثني عليه.
وبعد ان آل الامر إلى معاوية تقوم خصومة بينه وبين كعب بن جعيل شاعر الأمويين ومع غيره. ولكن النابغة لم يكن بارعا في الهجاء، فقد غلبه غير واحد من الشعراء، منهم الأخطل التغلبي... وحتى ليلى الأخيلية كانت قد هاجته فغلبته ولعل للزهد والتقوى اثرا في سماحته واجتنابه القول اللاذع والهجاء المقذع هذا من ناحية ومن ناحية ثانية فان النابغة قد بلغ الشيخوخة وفارق عهد القوة والحيوية والنشاط مما جعله ان يؤثر العافية ويكبح جماح غضبه.
وقد عرف الناس مكانة النابغة وحسن اسلامه ودعاء رسول الله ص له لا يفضض الله فاك فأكرموه وقدموه، فقد قدم النابغة في سنة جدباء على عبد الله بن الزبير حين دعا لنفسه في الحجاز ولاذ ببيت الله الحرام أواخر خلافة يزيد بن معاوية. فدخل النابغة على ابن الزبير في المسجد الحرام، فانشده أبياتا يذكر فيها ما أصابه وقومه من فقر وسوء حال، ومما قال في ذلك:
اتاك أبو ليلى يجوب به الدجى * دجى الليل جواب الفلاة عثمثم لتجبر منه جانبا زعزعت به * صروف الليالي والزمان المصمم فرحب به ابن الزبير ولان له ولاطفه واجزل له العطاء وقال له:
هون عليك يا أبا ليلى، فان الشعر أهون وسائلك عندنا... ولكن لك في مال الله حقان، حق برؤيتك رسول الله ص، وحق بشركتك أهل الاسلام في فيئهم.
وقد ساح النابغة في انحاء البلاد الاسلامية مجاهدا في سبيل الله، واستقر به المقام في أخريات حياته في أصفهان حيث توفي هناك وقد انصرف إلى الزهد والتقوى وكثرة الصلاة وتلاوة القرآن الكريم، تلاوة تعمقت قلبه وذهنه فصار يمثل ذلك في شعره تمثيلا صادقا، فهو حين يتحدث عن أحوال الدنيا وأمور الناس، بذكر ان الاسلام قد نزه نفسه وطهر قلبه من اللؤم والغدر والوقيعة، فهو يخشى الله سبحانه وتعالى في كل جوارحه، ولذلك يقول:
منع الغدر فلم أهمم به * وأخو الغدر إذا هم فعل خشية الله واني رجل * انما ذكرى كنار بقبل ويحفل ديوان النابغة بالشعر الذي يسبح فيه لله تعالى، ويستلهم آيات الله البينات، فهو يحكي معاني الآيات تارة. ويضمن ألفاظها تارة أخرى، وبخاصة ذلك الشعر الذي قاله في أخريات حياته حين تشبعت نفسه بتعاليم الاسلام ونفحاته فنراه في إحدى قصائده الطوال يبدأ شعره بحمد الله، ثم يثني على الله سبحانه، وينظم شهادة ان لا إله إلا الله، ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض فينظم معنى الآية الكريمة: ان الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون... وتأمل ذلك في قوله:
الحمد لله لا شريك له * من لم يقلها فنفسه ظلما المولج الليل في النهار وفي الليل * نهارا يفرج الظلما الخافض الرافع السماء على ال * أرض ولم يبن تحتها دعما وفي الأبيات نظر في ملكوت الله سبحانه وقد استعار من القرآن الكريم الآية الكريمة قل اللهم مالك الملك... تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شئ قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ونظر في بيت اخر قوله تعالى: الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها.
ويقلب النابغة بصره بين مخلوقات الله وكلما نظر في آية من آيات الله الكونية، دعته ثقافته القرآنية ان يتذكر الآية الكريمة فيروح ينظمها ويستعير معناها ويعرضها في شعره كأنه يريد ان يجعل شعره نظما لآيات القرآن الكريم، ولا يقف عند التفكير في السماوات والأرض، بل يتأمل في الإنسان وكيف خلقه الله فاحسن خلقه. ونراه يتتبع مراحل تكون الإنسان في الأرحام فيقول:
الخالق البارئ المصور في ال * أرحام ماء حتى يصير دما من نطفة قدها مقدرها * يخلق منها الابشار والنسما ثم عظما أقامها عصب * ثمت لحما كساه فالتأما