كبارا، والمبيضة تجئ كذلك، ولكن اخترمته المنية، وتفرقت أجزاؤه قبل الفتنة التيمورية.
وكتاب آخر تجدر الإشارة إليه قبل الحديث عن سفارته ومهمته السياسية أريد به كتابه الإنصاف والتحري، في دفع الظلم والتجري، عن أبي العلاء المعري.
لقد ثار ابن العديم على الجهلة من انصاف العلماء الذين أخذوا يكفرون شيخ المعرة الذي طالما صرخ من الأعماق:
لحي الله قوما إذا جئتهم * بصدق الأحاديث قالوا: كفر والذي كان يصرخ من عزلته:
أما في الأرض من رجل لبيب فيفرق بين ايمان وكفر! مهلا شيخنا الحكيم.
فلم تخل الأرض في يوم من الأيام من رجل لبيب منصف يفرق بين الكفر والايمان.
وها هو ذا، قاضي قضاة حلب، ينبري للدفاع عنكم فيرد على خصومكم ويسفه أحلامهم وتخرصاتهم ولهذا الدفاع، في تلك الفترة، قيمته لصدوره عن فقيه مجتهد وعالم مرموق، وأديب واسع الاطلاع وشاعر ومؤرخ، فمن كلماته قوله:
... وبعد فاني وقفت على جملة من مصنفات عالم معرة النعمان أبي العلاء... فوجدتها مشحونة بالفصاحة والبيان، مودعة فنونا من الفوائد الحسان، محتوية على أنواع الآداب، مشتملة من علوم العرب على الخالص واللباب، لا يجد الطامح فيها سقطة، ولا يدرك الكاشح فيها غلطة....
ولما كانت مختصة بهذه الأوصاف مميزة على غيرها عند أهل الإنصاف قصده جماعة لم يعوا وعيه، وحسدوه إذ لم ينالوا سعيه، فتتبعوا كتبه على وجه الانتقاد، ووجدوها خالية من الزيغ والفساد، فحين علموا سلامتها من العيب والشين، سلكوا فيها معه مسلك الكذب والمين ورموه بالالحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال الملحدة، ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده، فجعلوا محاسنه عيوبا، وحسناته ذنوبا. وعقله حمقا، وزهده فسقا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والاسلام. وحرفوا كلمه عن مواضعه وأوقعوه في غير مواقعه.
بهذا الأسلوب الحار أخذ يدافع عن عقيدة أبي العلاء بعد أن قرأ جميع كتبه وما اتهمه به خصومه فخرج برسالة الإنصاف والتحري، في دفع الظلم والتجري. وهو إذ أنصفه رد على حاسديه وكشف عن خصائص عبقريته.
ونتحدث عن سفارته إلى القاهرة حين اجتاح هولاكو بغداد في طريقه إلى الشام.
فقد دب الذعر في نفوس الأهالي، واجتاح الهلع رجال الدولة، والتفت الناس إلى مصر يطلبون النجدة فما كان من الملك الناصر يوسف صاحب الشام وحلب الا أن عقد مجلسا ضم أركان البلاد والقادة لتدارك الموقف، وبعد مداولات خطيرة قر الرأي أن ينتدب قاضي القضاة ابن العديم للسفر إلى مصر، وطلب النجدة من ملكها لرد عادية المغول.
وكان كمال الدين قد عاد من بغداد في مهمة توطيد العلاقة بين الخليفة والملك الناصر، وذلك قبل الاجتياح المغولي لبغداد.
ووصل مصر بعد عناء شديد وسفر مضن شاق طويل، فلم يكد يهبط أرض النيل متعبا مكدودا حتى احتفت به مصر حفاوة بالغة احتفى به الملك والامراء والأعيان والعلماء ونزل في ضيافة السلطان في قصر الكبش (1) وتوافدت رجالات مصر للسلام عليه والترحيب بمقدم عالم فذ ومؤرخ شهير.
وانتهت مراسم التسليم، وبعد أن أخذ حقه من الراحة بدأ بمفاوضاته التي انتهت بالنجاح. وسرعان ما جهزت مصر حملة كبرى إلى الشام للانضمام إلى جيش الملك الناصر ومقاتلة هولاكو لدفع هذا الخطر الذي يهدد البلاد العربية من فراتها إلى برداها إلى نيلها.
وفي هذه الفترات كان هولاكو يجتاح البلاد مدينة اثر مدينة وما زال حتى اقترب من حلب فدخلها سنة 658 ه بعد حصار دام عشرة أيام دافع الحلبيون عنها دفاع الأبطال ولكن دون جدوى.
فقد قتل خلال هذه المعارك كثيرون.
واستبيحت الدماء وامتلأت الطرقات بالقتلى، وتهدمت البيوت والجوامع والمساجد والبساتين حتى أصبحت المدينة خرابا يبابا.
يقول المؤرخون: أن الحلبيين قتلوا من جنود هولاكو عددا كبيرا.
وهذا الذي حمله، بعد أن دخلها، أن يعيث فيها ويأخذ منها مائة ألف أسير... عدا ما صادره من أموالها ونفائس كنوزها.
ومن حلب والى زحفه إلى دمشق ففلسطين... وما زال حتى اقترب من الحدود المصرية يريد غزة ومصر.
وخلال هذه الفترة كانت سفارة ابن العديم قد أثمرت فأعلنت مصر التعبئة العامة، وهب جيشها يدفع هذا العدوان العظيم.
وكانت معركة عين جالوت وهي من المعارك الحاسمة في التاريخ هي التي ردت هولاكو عن مصر وعن البلاد العربية كلها.