حبه لبناته، في حسرة على وليد يرث هذا المجد العلمي الذي كان ينتقل من الآباء إلى الأبناء.
وكلما تقدمت به السن كان يشعر أن القدر لن يهبه مولودا ذكرا، ولكن الآمال كثيرا ما تنبث من السجف السود. ومن الله على الشيخ بوليد ذكر. وليس هذا الوليد مؤرخنا كمال الدين، بل شقيقه، فلم يكد يشب عن الطوق حتى استله القدر من بين يديه، فحزن الوالد حزنا عميقا هد قواه. وأصابه ما لم يصب والد على فقد ولده فامتنع عن الطعام والشراب الا ما يقيم جسده الضاوي.
وقد هم يوما وقد غلبه الحنين ولج به الشوق وعصاه الصبر هم أن يخرج فلذة كبده من القبر ليروي غليل شوقه وينعم برؤيته.
وبالرغم مما كان عليه الشيخ من قوة وجبروت فقد امتنع عليه الحجر، ولم يستطع أن يكشف عن القبر، فأدرك أن الله جلت قدرته، أراد ذلك شفقة منه على الطفل وعليه، فزجر نفسه، وعاد إلى البيت متعبا مكدودا يبكي همسا ويصلي، وما زال حتى ارتمى على فراشه وهو في غاية الاعياء.
وبديهي، وهو في هذه الحالة، أن يستيقظ عقله الباطن على الرؤى والهواجس، وأن تتراءى له الأحلام وهو في غفوته اليقظة. فرأى في تلك الليلة رؤيا أرعبته أولا... ثم ما لبثت أن شفته من مرضه.
رأى ولده، وسمع صوته، وقد خيل إليه أنه يخاطبه بقوله:
يا أبي: عرف والدتي اني أريد أن أجئ إليكم.
واستيقظ أبو الحسن مذعورا. وركض إلى زوجته يريد ايقاظها. ولم تكن الأم المفجوعة نائمة، فهي أشد لوعة على ولدها من أبيه، فما كاد يقص عليها نبا الرؤيا حتى بكت بكاء شديدا.
وتشاء إرادة المولى أن ترأف بهذين القلبين الكسيرين، فمن الله عليهما بولد نحيف البنية، تكاد تحسبه شبحا من الأشباح.
ولعل القارئ قد أدرك أن هذا المولود هو كمال الدين مؤرخ حلب، موضع حديثنا في هذه الكلمة.
وقد عنى والده بتربيته منذ صغره تربية علمية، وتنشئته على غرار آبائه وأجداده.
وكان يفرض عليه حفظ طائفة من الكتب فحفظ اللمع وحفظ القدوري وحفظ غيرهما في مدد قصيرة. وكان قد حفظ القرآن الكريم وحفظ كتاب الله ميزة في آل العديم، فما منهم الا من انطوى صدره على آياته المحكمات.
وفي هذا الصدد يقول: لما ختمت القرآن قبلني والدي بين عيني وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي، هذا الذي كنت أرجوه فيك، حدثني جدك عن أبيه عن سلفه: أنه ما منا أحد، إلى زمن النبي ص الا من ختم القرآن....
وعرف كمال الدين بين أترابه بالسبق، وكان شديد الاتصال بعلماء عصره، سمع الحديث عن أبيه وعمه أبي غانم، وابن طبرزد، والافتخار والكندي والخرستاني وسمع جماعة كثيرة بدمشق وحلب والمقدس.
لقد سافر إلى دمشق وإلى القدس سنة 603 ه، ثم عاد فسافر مرة ثانية بعد خمس سنوات.
ولم تكن بغيته من هذه الرحلة التفرج على البلدان بل طلب العلم من الأئمة العظماء، مع درس الحالة السياسية والاجتماعية وتلمس ما كانت عليه دمشق والقدس من غليان واضطراب...
وعاد إلى حلب يتابع نهجه الدراسي، وإذ أصبح مرموق القدر بين العلماء، نيط به التدريس في أعظم مدارس حلب وهو في الثامنة والعشرين من عمره.
وأخذ يؤلف في هذه السن المبكرة، فكتب للملك الظاهر كتاب الدراري في ذكر الذراري، وقدمه إليه هدية يوم ولد ولده الملك العزيز الذي أسندت إليه سلطة حلب بعد أبيه.
كما كتب كتاب ضوء الصباح في الحث على السماح، صنفه للملك الأشرف. وحين أنعم الملك النظر في جمال خطه رغب رؤيته، ولما مثل يديه أحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه.
وهكذا، بدأ نجم ابن العديم يلمع وأخذ صيته يدوي، وأحبه العلماء والملوك، وكأنما كان التأليف نزعة من نزعات هذا الشاب فلا يكاد ينتهي من وضع كتاب حتى يبدأ بوضع كتاب آخر.
وقد طلب إليه ياقوت أن يؤرخ لآل العديم الذين يتصل نسبهم ببني جرادة فكتب في أسبوع واحد كتاب الاخبار المستفادة في ذكر بني جرادة، وإذ عرف بجودة الخط فقد وضع كتابا في الخط وعلومه، ووصف آدابه وأقلامه وطروسه، وما جاء فيه من الحديث والحكم. ومن كتبه تدبير حرارة الأكباد، في الصبر على فقد الأولاد، صور فيه لواعج الحزن في صدر أبيه الذي فجع بفقد أخيه.
على أن أعظم كتبه بدون ريب كتابه الجليل تاريخ حلب الذي لا يقتصر على أخبار ملوكها، وابتداء عمارها، ومن كان بها من العلماء، ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والامراء، بل تناول جغرافية المملكة وبحيراتها وجبالها وتربتها وهوائها ومائها وخراجها وعادياتها، فذكر مدنا تعد اليوم من كليكيا والجزيرة مع أنها من أعمال حلب مثل أذنة والكنيسة السوداء وطرسوس وسيس والحدث الحمراء وملاطية وسميساط ورعيان ودلوك إلى غير ذلك من البلدان والحصون.
يقول ابن الشحنة (1): أن مسودته كانت تبلغ نحو أربعين جزءا