يؤملن عودي بما ينتظرون * كما يرتجي آيب من سفر فانعم بانجاز ما قد وعدت * فما غيرك اليوم من ينتظر وعش لي وبعدي فأنت الحيا * ة والسمع من جسدي والبصر وهو إذا ما عرض لمدحه لا ينجح إلى المبالغة الممقوتة، ولا يتعمل الثناء الأجوف ولا يتصيد المكارم تصيدا، بل يقول ما يعرفه ويصفه بما فيه:
إذا ما علاء في الصدر للنهي والامر * وبثهما في النفع منه وفي الضر وأجرى ظبا أقلامه وتدفقت * بديهته كالمستمد من البحر رأيت نظام الدر في نظم قوله * ومنثوره الرقراق في ذلك النثر ويقتضب المعنى الكثير بلفظه * ويأتي بما تحوى الطوامير في سطر أيا غرة الدهر ائتنف غرة الشهر * وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر بأيمن اقبال واسعد طائر * وأفضل ما ترجوه في أفسح العمر فليس في هذا المديح اسراف ولا إغراق في المبالغة: فقد كان الوزير المهلبي كما يقول الثعالبي غاية في الأدب والمحبة لأهله وكان يترسل ترسلا سليما مليحا ويقول الشعر قولا لطيفا يضرب بحسنه المثل يغذي الروح ويجلب الروح وكان محدثا حسن الحديث بليغ العبارة رشيق اللفظ وكان أكثر حديثه يدور حول مذاكرة الأدب ومقابسة العلوم، لكثرة من يغشى مجالسه من العلماء والأدباء والندماء كالصاحب ابن عباد، وأبي إسحاق الصابي والقاضي التنوخي، وابن سكرة الهاشمي، وأبي القاسم الجهني، وأبي النجيب الجزري، وأبناء المنجم، وكان أبو الفرج يجول في هذه المجالس ويصول يقص ويروي وينقد وينذر وينثر من أدبه ويفيض من علمه فكان مجلس المهلبي من أسباب نباهة شانه وشيوع ذكره كما كان المهلبي من أسباب رفاهية عيشه وتفرغه للعلم والأدب، ولكنه مع ذلك لم يخل من هجوه وكان يعلم أنه يهجوه سرا فطلب إليه ذات ليلة ان يهجوه جهرا في قصة معروفة، وقد رأى أبو الفرج منه بعض ما يكره فظن أنه رمي به من حالق، بعد ان أنعم عليه الخالق، فقذفه بهذين البيتين:
أ بعين مفتقر إليك رأيتين * بعد الغنى فرميت بي من حالق لست الملوم انا الملوم لأنني * أملت للإحسان غير الخالق يومئ أبو الفرج إلى ما كان من فقر الوزير أيام كان يشتهي اللحم ولا يقدر على ثمنه فيتمنى الموت ويقول من أبيات:
الا موت يباع فاشتريه * فهذا العيش ما لا خير فيه ولكن الهجاء لم يقطع الصديقين ويظل حبل اخائهما متصلا حتى يقطعه موت المهلبي سنة 352.
وقد كان أبو الفرج هجاء يحذره الناس ويتقونه، وقد استوزر الخليفة الراضي أبا عبد الله البريدي وكانت داره ملاصقة لدار أبي الفرج فهجاه وأنب الراضي بقصيدة تزيد على مائة بيت مطلعها:
يا سماء اسقطي ويا ارض ميدي قد تولى الوزارة ابن البريدي وانحدر مرة إلى البصرة فضاق بها وهجاها وأهلها وقال عنهم: انهم كلاب يلبسون الفرا وقد كان أبو الفرج ذا عناية ملحوظة بالحيوانات وتربيتها، قال في وصف ديك له:
من حمرة صفرة في خضرة تخييلها يغني عن التحقيق وكان سالفتيه تبر سائل وعلى المفارق منه تاج عقيق وهذان البيتان من قصيدة له في رثاء هذا الديك يقول فيها في الرثاء:
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا * بتحنن وتأسف وشهيق ويزيدني جزعا لفقدك صادح * في منزل دان إلي لصيق قرع الفؤاد وقد زقا فكانه * نادى ببين أو نعي شقيق فتأسفي ابدا عليك مواصل * بسواد ليل أو بياض شروق وإذا أفاق ذوو المصائب سلوة * وتصيدوا أمسيت غير مفيق ذلك رثاؤه لديك له فقد صوره تصويرا واضحا كاملا بفضل عينه الشديدة الانتباه وفكره البعيد في العمق. وأبو الفرج الأصبهاني رزق من محاسن اللغة والفن الشئ الكثير حتى كدنا نرى الديك يزهي بمحاسن ألوانه، وكدنا نرى خطراته وميساته ونسمع صياحه، انه يصيب اللفظ في مواضعه وينزله في منازله، والى هذا الوضوح في اللغة والغنى في الألفاظ المصورة نستطيع ان نضيف الصفات المحسوسة وخصب التشبيهات في الشعر: ومما جاء في قصيدته في رثاء الديك قوله:
لهفي عليك أبا النذير لو أنه * دفع المنايا عنك لهف شفيق وعلى شمائلك اللواتي ما سمت * حتى ذوت من بعد حسن سموق وتكاملت جمل الجمال بأسرها * متلألئا ذا رونق وبريق من حمرة في صفرة في خضرة * تخييلها يغني عن التحقيق عرض يجل عن القياس وجوهر * لطفت معاينه عن التدقيق وخطرت ملتحفا ببرد حبرت * منه بديع الوشي كف أنيق كالجلنارة أو صفاء عقيقة * أو لمع نار أو وميض بروق أو قهوة تختال في بلورة * بتألق الترويق والتصفيق وكان سالفتيك تبر سائل * وعلى المفارق منك تاج عقيق وكان مجرى الصوت منك إذا نبت * وجفت عن الاسماع بح حلوق ناي دقيق ناعم قرنت به * نغم مؤلفة من الموسيقي يزقو ويصفق بالجناح كمنتش * وصلت يداه النقر بالتصفيق ويميس ممتطيا لسبع دجائج * مثل المهاري أحدقت بفنيق وهكذا فلم يعن أبو الفرج بمراقبة الناس وحدهم وتتبع اثارهم واخبارهم، وانما عني بمراقبة الحيوان أيضا ولا سيما الحيوان الذي كان يعيش في داره. فهو يصف هذا الحيوان وصفا إذا جاء في عصرنا هذا مصور وقف عليه استطاع ان يعيد صورته بريشته وهذه براعة أبي الفرج في الدقة والتصوير.
وكان من عادة أبي الفرج أن يغشى سوق الوراقين ويجلس على دكاكينهم يقرأ ما يلحظ وينقد ما يسمع ويأخذ بأطراف الأحاديث التي يتجاذبها بينهم رواد السوق من العلماء والأدباء ثم يؤوب إلى منزله بعد ان يصطفي ما يرتأي من الكتب والمصادر التي يعتمد عليها في تاليف كتبه.
كما كان يجلس لتلاميذه ورواد أدبه يقرئهم من كتبه ما يريد أو يريدون على نحو ما كان يفعله أستاذه أبو جعفر الطبري، وفي طليعة تلك الكتب التي قرئت عليه من أولها إلى اخرها كتاب الأغاني الذي يقول عنه ابن خلدون:
جمع فيه اخبار العرب وأشعارهم وانسابهم وأيامهم ودولهم وجعل