مبناه على الغناء في مائة الصوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري انه ديوان العرب وجامع اشتات المحاسن التي سلفت إليهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به في ذلك كتاب فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليه الأدب، ويقف عندها وانى له بها.
الأغاني لا شك ان كتاب الأغاني يعد في الطبقة الأولى من تراثنا القديم، ولكن بهذا الكتاب ميزة غير هذه، أي غير كونه تراثا فكريا ثقافيا محضا، ومن خلال هذه الميزة يستحق ان ينظر إليه على وجه جديد.
وميزة الأغاني هذه، هي ان مؤلفه أبا الفرج الأصبهاني، قد عني عناية ظاهرة في أن يسجل فيه الحياة العربية في عصره وفي العصور التي سبقته تسجيلا أمينا صادقا شاملا تجاوز به طبقة الخلفاء والملوك والوزراء، إلى فئات العلماء والشعراء والمثقفين، والمغنين والملحنين، والندماء، والى سائر فئات الشعب في مختلف أحوالهم ووقائع عيشهم وطرائق تفكيرهم وعادتهم إلى كثير من علاقاتهم الاجتماعية بعضهم ببعض وعلاقات الحكام بهم.
ولكن هذه الميزة كانت تظل ناقصة، إذ كانت تكون غير ذات نفع، ولا قيمة تاريخية انسانية، لو أن الفرج الأصبهاني قد حابى طبقة من هذه الطبقات كلها على حساب التاريخ أو لو أنه كان هو نفسه من الذين هانت عليهم كرامتهم العقلية فازدلف إلى الحكام بشئ من التملق والمراعاة والمداجاة، أو لو أنه كان من غير هذه الطبقة التي عاش حياتها طوال عمره، نعني طبقة المثقفين العاملين الذين يعتمدون حياة العمل في سبيل المعرفة وسيلتهم الوحيدة لتحصيل المعرفة، حتى ينشأ فيهم وجدان يأبى عليهم الا الصدق والصراحة، والا التحرر من الهوى والطمع والرياء والدجل والمحاباة.
ذلك ان أبا الفرج على رغم انه ينتسب إلى الأمويين فهو من أحفاد مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين قد ولد بأصبهان في أحضان الفقر، وانتقل منذ صغره إلى بغداد، وليس له من أسباب العيش الا أيسرها وأتفهها، فعكف في مدارسها ومعاهدها يطلب العلم من كل سبيل ويطرق له كل باب لا يختص فرعا من المعرفة دون فرع.
وخرج الفتى الأصبهاني من شبابه وهو يجمع في واعيته فروعا شتى من ثقافات بغداد، فإذا هو عارف باللغة والنحو والفقه والفلسفة، وإذا هو على بصر في الشعر والأدب والأغاني، وإذا له إلمام جامع باخبار العرب واثارهم وأيامهم وانسابهم، وإذا هو يحيط بأطراف من علوم الاحياء والاجتماع وإذا له خبرة بعلوم البيطرة والتشريح والطب والنجوم.
وما عرف الناس في أبي الفرج وهو العالم الأديب النقاد المرموق انه تملق إلى الحكام الا صلة كانت به بالحسن المهلبي وزير معز الدولة البويهي، فإذا استثنينا هذه الصلة، نرى ان أبا الفرج كان منقطعا إلى علمه وأدبه يعز شأنهما عن كل ابتذال وامتهان، ونرى رجال السلطان ورجال العلم والأدب جميعا يجلون لذلك قدره ويهابون شانه ثم نرى أبا الفرج رجلا ليس يخنقه الوقار والتزمت، ولكن نرى فيه إلى وقار العلم ومهابة المعرفة، خفة روح وعذوبة طبع ونزوعا محببا إلى الفكاهة، والطرب والمرح وارسال النادرة المستملحة الطيبة.
ومن هنا نعرف انه رجل حفظ لنفسه كرامتها، وحفظ لعلمه وأدبه عزتهما والا لكان أولي بمثله يومئذ ان يختاره الخلفاء نديما، بل لكان أولي ان يكون ذا منزلة وسلطان في دولة المنادمة وعلى موائد الملوك والخلفاء والوزراء، ولكنه ترفع عن كل ذلك اكراما للعلم واعزازا للأدب والفكر.
على مثل هذه البسطة في العلم والأدب، وعلى مثل هذا الشمول في ممارسة المعرفة وعلى مثل هذه النفس العزوفة عن الهوان والابتذال، عكف أبو الفرج خمسين سنة يؤلف كتاب الأغاني.
ولقد مكنه علمه وأدبه ومكنه استقلاله الفكري وتحريره من كل ما يقيده بصلة مع الحكام ومكنه اطلاعه على شؤون الحياة العامة في أوساط الشعب كافة، لقد مكنه هذا ان يكتب الأغاني في استيعاب شامل وفي صراحة ليس معها محاباة ولا رياء ولا ملق.
بل لقد بلغ به استقلاله الفكري وتحرره من علاقات العيش بذوي السلطان على اختلاف في درجات السلطان وبلغ به التجرد العلمي من كل ما كان يعرف أهل عصره من العصبيات انه كتب الأغاني بطريقة موضوعية ليس متأثرا فيها بشئ من الدوافع الذاتية فلم يستسلم لعصبية من العصبيات ولم يندفع مع خوف من خليفة أو ملك أو وزير، بل لم يحذر من تقاليد الناس ومواضعاتهم العرفية في الأخلاق الشائعة.
ومن هنا جاء هذا الكتاب العظيم يتحدث إلى الأجيال عن حياة ذلك العصر وما سبقه من عصور العربية حديثا شاملا حيا زاخرا بالحياة، فصور ثقافة العصر وصور أدبه وغناءه وألحانه ثم صور حياة الخلفاء والملوك والوزراء ورجال الدولة جميعا كما كانوا يعيشون ويبذخون ويلهون ويمجنون واستعرض ألوانا من تاريخ الجاهلية وصدر الاسلام والعصر الأموي أدبا واجتماعا وسياسة وصراعا على الحياة وعلى الرأي وعلى الخلافة جميعا.
وبعد فان للأغاني ميزة أخرى تضاف إلى الميزات كلها، وهي ان أبا الفرج كتبه بلغة الأديب المنشئ المطبوع فإنما هو من حيث تعبيره فن أدبي بارع بجمال السرد وجمال العرض والأداء، وجمال اللغة وصفائها، فهو يمثل من هذه الناحية تطورا تاريخيا للنثر الفني في عصره، بل لقد كان وثبة هائلة في هذا التطور.
فقد جمع الأغاني مزايا الفن الإنشائي ومزايا الفن القصصي ومزايا النقد الأدبي البصير بكل جمالات الفن.
ولقد بنى أبو الفرج هذا الكتاب على دراسة مائة صوت من أصوات الغناء العربي كان قد اختار لها الرشيد ثلاثة من اعلام الغناء في عهده:
إبراهيم الموصلي وإسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء ثم اختاروا منها ثلاثة أصوات. وفي عهد الواثق اختار له إسحاق من هذه المائة ما ارتأى انه أفضل من غيره.
وقد جرى أبو الفرج في كتابه على البدء بصوت من هذه الأصوات