إن قلت: إذا سلمتم شمول الحديث للضرر الآتي من ناحية جواز الحفر أولا فقد جرى حكم الحديث في هذا الجواز، وحكم في مورده بانتفائه وقيام الحرمة مقامه، فبعد ما شمله الحديث وحكم عليه بالحرمة فلا يعم الحديث الضرر الآخر، لامتناع شمولهما معا في عرض واحد، وفرض أنه قد شمل الضرر الأول، فاللازم تقديم جانب الجار.
قلت: ليس مقتضى شمول الحديث الضرر الأول أن الحكم الإلهي في مورده بحسب الواقع والجد هو الحرمة وانتفاء الجواز، وإنما مقتضاه أن فيه اقتضاء إثباتيا لثبوت هذا الحكم، وإلا فثبوته الجدي مبني على تعلق الجد به في هذا المصداق، وهو بعد محل كلام، ومعلق على أن لا يكون هنا حاكم ودليل أقوى بخلافه، فكما أن شمول إطلاق قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) * (1) الآية. للوضوء الضرري ليس معناه تعلق الجد بوجوب هذا الوضوء، وإنما فيه اقتضاء إثباتي لثبوته، ويصل إلى الفعلية لو لم يمنع دليل أقوى، وحديث لا ضرر دليل أقوى يمنع عن تعلق الجد بذاك الإطلاق، فهكذا عموم حديث لا ضرر بالنسبة لشموله لضرر جواز حفر البالوعة، حرفا بحرف.
إن قلت: إن قاعدة لا ضرر قاعدة امتنانية لا تجري إلا في نفي ضرر يكون في نفيه منة على الأمة، ولا منة على الأمة في نفي ضرر يكون نفيه مستلزما لورود ضرر على بعض أفراد الأمة في عين أنه منة على من سد باب الضرر عنه، وكلا الضررين هنا من هذا القبيل، فإن المفروض أن سد باب كل منهما يفتح منه باب الآخر، فحديث " لا ضرر " لا يشمل شيئا منهما، ويجب العمل هنا على القواعد الأولية، ولازمها جواز الحفر بعموم أدلة جوازه.
قلت: بعد تسليم أن الحديث وارد في مقام الامتنان وإن لم يصرح به في