المبحث الثاني في جواز التقليد لمن له ملكة الاجتهاد لا شك في أن المتيقن في من يجوز له التقليد هو من ليس له ملكة الاستنباط، كما لا ريب في عدم جواز التقليد لمن استفرغ وسعه واستنبط الحكم من دليله، فإنه حينئذ عالم بالحكم والوظيفة، ولا يعمه أدلة التقليد المختصة بمن لا يعلم معالم دينه، وإنما الكلام فيمن حصل له ملكة الاجتهاد ولم يستنبط الحكم من الأدلة.
ففي رسالة شيخنا الأعظم (قدس سره) أنه لم ينقل الجواز عن أحد منا، وإنما حكى عن مخالفينا على اختلاف منهم في الإطلاق والتفصيلات المختلفة، نعم، اختار الجواز بعض سادة مشايخنا في مناهله. انتهى. إلا أن المنقول من عبارته عن كتاب قضاء المناهل إختصاص الجواز بالضرورة كضيق الوقت ونحوه.
وكيف كان فليس ببعيد أن يقال: إن مقتضى الأدلة جوازه له أيضا، وذلك أن عمدة أدلة الجواز هو القاعدة العقلائية، أعني جواز رجوع الجاهل في كل شئ إلى العالم به، والمجتهد الذي له ملكة الاستنباط ما لم يستنبط الحكم من دليله فهو جاهل بالحكم بالفعل، فيجوز له الرجوع إلى قول من استنبط الذي هو طريق لرفع جهله، كما يجوز له الرجوع إلى أدلة الأحكام لذلك، والعقلاء يجوزون للجاهل من أهل الخبرة أن يترك عملية الإختبار والاجتهاد ويستريح إلى نظر من هو عديله، ولا يوجبون عليه إيقاع نفسه في كلفة الإجتهاد كما يشاهد في جواز رجوع طبيب مرض إلى من هو مثله، وهكذا، فإذا جاز ذلك بعموم هذه القاعدة العقلائية صح دعوى انعقاد الإطلاق للأدلة اللفظية وتجويز التقليد لمثله.
وأما الاستدلال لعدم الجواز بأنه لما كان لا مانع من شمول أدلة الأحكام للمجتهد فلا محالة تتنجز الأحكام الواقعية المذكورة فيها في حقه، ومعه فلا عذر له في ترك امتثالها بالاستناد إلى فتوى غيره، فإن موردها من لا حجة له على الحكم.