ثم إن هذا بعد تسليم أن إجراء البراءة مستلزم لثبوت الحكم الآخر، وأما أنه هل يستلزمه؟ ومتى وكيف يستلزمه؟ فهو أمر آخر، ومحل البحث عنه مبحث الأصل المثبت من مباحث الاستصحاب.
الثاني: أن لا يتضرر بإعمالها مسلم، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسك رجلا فهربت دابته فإن إعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف وعموم قوله: " لا ضرر ولا ضرار "، فإن المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع، وإلا فالضرر غير منفي، فلا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النص، بل يحصل العلم القطعي بتعلق حكم شرعي بالضار، ولكن لا يعلم أنه مجرد التعزير أو الضمان أو هما معا، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.
أقول: إن عمدة الوجه لاشتراط هذا الشرط عند قائله: هو أن شرط التمسك بالأصل هو إحراز أن مورده فقدان النص، وبعد احتمال انطباق قاعدة الإتلاف واللا ضرر هاهنا فالشرط غير حاصل، فإنه لا علم حينئذ ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة، فهذا هو الظاهر القريب بالصراحة من كلامه، فاحتمال أن مبنى كلامه أن من شرط البراءة أن يكون في جريانه امتنان على عموم الأمة، لا خصوص من تجري في حقه - كما احتمله بعض أعاظم العصر دام ظله - لعله في غير محله.
وحينئذ فيرد عليه أولا: أن المانع عن جريان أصل البراءة وغيره من الأصول هو إحراز قيام دليل اجتهادي وطريق معتبر في مورده موافقا كان أو مخالفا لحكومته أو وروده عليه، ومجرد الاحتمال المقوم للشك غير مانع، كما لا يخفى.
وثانيا: أنه لا خصوصية حينئذ لإيجاب تضرر المسلم، بل لازم الوجه المذكور أنه كلما احتمل دلالة دليل اجتهادي على حكم المورد فهو خارج عن مجرى البراءة، لصدق قوله: " فلا علم ولا ظن بأن الواقعة غير منصوصة، فلا يتحقق شرط التمسك بالأصل من فقدان النص " فيه. وهو كما ترى.