فلو قلنا: بأن وجوب الاجتناب عن النجس لا يمتثل إلا بالاجتناب عن ملاقيه، ببيان: أن الاجتناب عن النجس يراد به الاجتناب عن نجاسته، وحيث لا ريب في أن نجاسة الملاقي ليست نجاسة أخرى مستقلة، بل الملاقاة أوجبت تأثر الملاقي وانتقال النجاسة من ملاقاة إليه، فالاجتناب عن الملاقى - بالفتح - وعن نجاسته لا يتحقق إلا إذا اجتنب عن الملاقي وملاقيه معا، فعليه كان اللازم الاجتناب عن ملاقي الطرف كنفسه احتياطا، فإن المفروض العلم الإجمالي بوجود التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، فهذا التكليف يتنجز في أي الطرفين أو الأطراف كان، ولا معنى لتنجزه إلا وجوب الاجتناب عن نفس كل من الأطراف وملاقيها، كما لا يخفى هذا.
لكن هذه المقالة خلاف المشهور، وخلاف ظاهر الأدلة، فإن ظاهر الأمر بالاجتناب عن الشئ النجس إيجاب الاجتناب عن نفسه، ثم إن المتنجس المتأثر منه أيضا موضوع على حدة يجب الاجتناب عنه أيضا، حتى أن رواية جابر الجعفي الواردة في الفأرة الميتة الواقعة في السمن لا تدل على خلاف مقال المشهور، فإن الظاهر أنه (عليه السلام) في قوله: " إن الله حرم الميتة من كل شئ " ليس بصدد أزيد من بيان أن ميتة الفأرة أيضا نجسة، وأما الاجتناب عن ملاقيها فإنما هو لمكان العلم المرتكز بأن ملاقي النجس نجس، وتمام الكلام في الفقه.
وأما إذا قلنا بأن كل نجس أو متنجس موضوع خاص مستقل لوجوب الإجتناب، والاجتناب عنه إنما هو بالاجتناب عن نفسه فهاهنا صور ثلاث، كما في الكفاية:
الأولى: أن يعلم إجمالا أولا بنجاسة أحد الطرفين، ثم يعلم بملاقاة شئ لأحدهما، سواء أكانت الملاقاة متقدمة عن العلم الإجمالي، أم متأخرة، أم مقارنة، ففي هذه الصورة يجب الاحتياط بالاجتناب عن الطرفين، للعلم الإجمالي بتحقق التكليف في أحدهما، فيكون منجزا لا محالة، ولا مجال معه لجريان قاعدة الطهارة فيهما، وأما ملاقي بعض الأطراف فلم يعلم نجاسته، ولا بأس بجريان