بحيث لا عذر في مخالفته، وهذه المرتبة يكون نفس حب المولى أو بغضه حجة على العبد - كما لو علم العبد به وكان المولى نفسه غافلا عن محبوبه - فضلا عن بعثه وزجره الفعليين، وبين المبدأ ونفس الحكم مضادة في الأحكام، كما لا يخفى.
فهذا مما لا إشكال فيه.
وأما مرتبة انشائية الأحكام فمراده (قدس سره) منها نفس كونها منشأة من دون فعلية البعث أو الزجر أو الترخيص، ففي هذه المرتبة وإن أنشأت الأحكام إلا أنه ليس في البين بعث ولا زجر ولا ترخيص حقيقة، وبتعبير نفسه (قدس سره): إن الحكم حينئذ فاقد لما به قوام الحكم وحقيقته وروحه، فلو علم به تفصيلا أو إجمالا لم يجب موافقته كي يكون مخالفته موجبة للعقوبة، ولا يكون هذا إلا من باب عدم كون الخطاب بمجرده تحريما أو ايجابا حقيقة وإن كان به انشائهما، ولا يخفى أن هذا لا ينافي وجوب اتباع القطع مطلقا، " انتهى " (1).
وبعد ما أشرنا إليه من كون ملاك منافاة الأحكام منافاة مباديها النفسية، وإلا فنفس الأمور الاعتبارية لم يكن منافاة بينها أصلا، تعرف أن دعواه الثانية أيضا قابلة للتصديق، فإن صرف إنشاء الأحكام لا يلازم الحب أو البغض الفعلي، حتى يكون بينها منافاة وبعبارة أخرى: الحب أو البغض - مثلا - إنما يكون في مبادئ الأحكام الفعلية لا الإنشائية.
نعم، ربما ينكر انفكاك مرتبة الإنشاء عن الفعلية، بدعوى أن البعث الفعلي - مثلا - إنما يتصور في الإنشاء بداعي جعل الداعي، فإذا علم المولى بعدم بلوغ بعثه مرتبة الفعلية، فلا محالة لا ينقدح في نفسه انشائه، لعلمه بعدم ترتب الغاية عليه، فإنشاؤه حينئذ في قوة المعلول بلا علة.
وفيه: أنه إنما يستحيل إنشاؤه فيما لم يبلغ المنشأ مرتبة الفعلية أصلا، وأما إذا كان الحكم يبلغ تلك المرتبة، فلا ضير في إنشائه قبل بلوغ زمان فعليته، لكون الحكم عموميا ربما يوجد شرط الفعلية في بعض المكلفين دون بعض، أو لغرض