وجود الأطراف شديدة التعلق والاندكاك فيه لزم كل نسبة نسبتان أخريان، ولزم هاتين النسبتين أربع نسب أخرى... وهكذا يتسلسل وتتصاعد وجودات النسب إلى ما لا نهاية له. ووجهه: أن هذا الوجود الزائد على وجود الأطراف لا محالة وجود متعلق ومرتبط بالطرفين، فله ربطان: واحد بهذا الطرف، وآخر بالطرف الآخر، وكل واحد من ربطيها أيضا كذلك...، وهكذا وهو التسلسل المدعى.
لا يقال: إن وجود النسبة وجود رابط هو عين الربط، وذاته الربط، فلا يحتاج إلى رابط زائد.
فإنه يقال: إذا كان المفروض أن وجودها زائد على وجود الأطراف خارج عنها فلا محالة يلزمه ما ذكرنا والتعبير بالرابط وعين الربط لا يوجب تغييرا في لازمه.
فالحق أن النسب والروابط أمور انتزاعية لا وجود لها إلا وجود منشأ انتزاعها، وهي كسائر الأمور الانتزاعية ليست من قبيل أنياب الأغوال، وإن اشتركت معها في أنها لا يحاذيها في الخارج وجود يخصها، والمفاهيم الانتزاعية كثيرة جدا، كالحدوث، والصدور، والعلية والمعلولية، والخالقية والرازقية، إلى غير ذلك.
وحينئذ نقول: إن لفظة " من " - مثلا - تحكي عن مصداق الربط الذي بين السير والبصرة، وما يحضر منه عند الذهن مفهوم وصورة ذهنية فانية في ذاك الربط الحرفي المنتزع نسبتها إلى المصداق الانتزاعي المذكور، نسبة المفهوم من لفظ " السير " و " البصرة " إلى واقعهما، فالمحكوم عليه وبه والربط بينهما التي يكون المتكلم بصدد إلقائها إلى المخاطب والحكاية عنها إنما هي نفس الموجودات الخارجية، وهي الموضوع لها الألفاظ والمستعمل فيها الألفاظ، إلا أن كل ذلك لا يمكن، ولا طريق إليها إلا بآلية ووساطة المفاهيم الذهنية التي نسبتها إلى الموضوع له والمستعمل فيه الواقعي نسبة المفهوم والحمل الأولي إلى المصداق والحمل الشايع.