من البصرة إلى الكوفة " فلا ريب في أن مفاهيم الأسماء في هذه الجملة في الذهن مترابطة. كما لا ريب في أن نفس الأسماء لم يؤخذ في معاني أنفسها الموضوع لها ألفاظها ربط أصلا، فلا محالة قد جاء هذا الربط من ناحية معنى الحروف، ومن الواضح أن مفهوم الربط لا يوجب حصول هذا الترابط، بل الموجب له هو مصداق الربط، فالحاضر من الأسماء عند الذهن وإن كان مفهوم المعاني الموضوع لها التي هي بالحمل الأولي تلك المعاني إلا أن الحاضر من الحروف عند الذهن لابد وأن يكون مصداق الربط الخاص حتى يحصل به الربط بين مفاهيم الأسماء في الذهن، لما عرفت من أن مفهوم الربط لا يكفي في حصول هذا الترابط، فالحروف موضوعة للمعاني الذهنية الموجبة لارتباط مفاهيم الأسماء في الذهن، فهي رابطات ومصاديق للربط في الأذهان. (1) " انتهى ملخصا " أقول: لا يرتاب أحد إذا راجع وجدانه أن المفهوم المتبادر من الحروف في المثال المذكور - أعني قولنا: " سار زيد من البصرة إلى الكوفة " - ارتباط السير في وجوده الخارجي بالبصرة والكوفة الخارجيتين، فكما أن المتبادر من السير والبصرة والكوفة معانيها بمالها من الوجود الخارجي المختص بكل منها، وكان هذا دليلا على أن الموضوع له في ألفاظها تلك الموجودات الخارجية فهذا التبادر بعينه موجود في الربط الخاص المدلول عليه بالحروف، فلا محالة يكون الموضوع له فيها أيضا مصداق الربط الخارجي وإن كان أمرا انتزاعيا، ولا محالة يكون الموجود من هذا المصداق الخارجي في الذهن أيضا مفهوما له، كما كان كذلك في معاني الأسماء، وحينئذ فالترابط الحقيقي متحقق بين المصاديق الخارجية التي هي معاني الألفاظ حقيقة، واتصاف صورها الذهنية به إنما هو بتبعها، ومن باب سراية أوصاف المعاني إلى مفاهيمها، ومن قبيل وصف الشئ بحال متعلقه، وإلا فالصور الحاضرة من كل من المعاني الحرفية والاسمية عند الذهن مستقلة كل عن الأخرى، ولا دليل على الربط الحقيقي بينها في الذهن اللهم إلا بالعرض والمجاز
(٣٣)