الثالث: وهو الوهم الأخير المتوجه إلى الاستدلال، وهو أن المقصود من الاستدلال بالأخبار في أمثال المقام، ليس تحديد المقتضيات، وتعيين الحدود للمفاهيم العرفية واللغوية، فإن ذلك خارج عن حيطة التعبد المقصود، وهو الاستشهاد بالأدلة التعبدية لتقريب ما يستظهر من البناءات العقلائية، أو ما يقتضيه العقل النظري، فعلى هذا إذا كانت الرواية مورد المناقشة عقلا لا يمكن التعبد بها، وتسقط عن الاستدلال والاستشهاد.
والمناقشة العقلية هنا: هي أن النهي لا يعقل أن يكون مستتبعا للحكم الوضعي وهو الفساد، بل هو يستتبع الصحة والإجزاء، وذلك لأن الأوامر والنواهي التكليفية الإلهية وغير الإلهية، لا تعقل إلا في موقف قدرة المكلفين على الطبيعة المأمور بها، أو المنهي عنها، وإلا تلزم اللغوية الظاهرة الواضحة.
وعلى هذا، فالنهي التحريمي عن النكاح والمعاملة، شاهد على قدرة العبد على النكاح والمعاملة خارجا، وشاهد على تمكن العبد من الإتيان بتلك المعاملة، وإذا كانت المعاملة الخارجية مقدورة، فلا بد وأن تكون صحيحة، وإلا فلا معنى للنهي عنها، فالتعبد بالمسألة الأصولية - لأجل قيام هذه الأدلة الشرعية - غير جائز، بل لازمها هو التعبد بنقيض المطلوب.
أقول: هذا ما هو الإشكال المنسوب إلى أبي حنيفة والشيباني ويظهر عدم اختصاصه بالمعاملات، لأن العبادة المنهية أيضا لا بد وأن تكون مقدورة للعبد حتى يصح النهي عنها، فالنهي فيها أيضا يشهد على الصحة وإمكان تحققها الملازم للإجزاء، وقد تعرض الأصحاب - رحمهم الله تعالى - لهذه الشبهة بشكل مستقل (1)، ولكننا تعرضنا بشكل آخر كما عرفت، والأمر سهل.