انتقل من مضيق العلم إلى عرصة العين وخرج من شتات الفرقة إلى نظام الجمع وسرى فيه الحب سريان النور في العين والقوة في السمع فيطرب بوصاله وينشد بلسان حاله جنوني فيك لا يخفى وناري منك لا تخبو فأنت السمع والابصار والأركان والقلب وفي الحديث القدسي المتفق عليه لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وقلبا ويدا ورجلا إن دعاني أجبته وإن ناداني لبيته وإليه الإشارة بقوله سبحانه وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقول أمير المؤمنين (ع) ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية بل بقوة ربانية وقال المولوي إن پسر را كش خضر ببريد خلق سر انرا در نيا بد عام خلق انكه جان بخشد اكر بكشد روا است حاكم است و دست أو دست خدا است وهذا غاية السير أن تفقه منطق الطير وليس وراء عبادان قرية و هو إنما يتحقق بلزوم متابعته صلى الله عليه وآله في جميع ما يشرع فيه التأسي كما ينبه عليه حذف المتعلق والمهم من ذلك أمور منها الوضوء فإن الله يحب المتطهرين وهو ينور القلب لارتباط الملك بالملكوت كما مر والوضوء على الوضوء نور على نور ومنها الخلوة عن العوام فهي تفرغ القلب والبدن عن الشواغل كما ذكر دون الخواص فإن صحبتهم نعم العون وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يحب الخلوة وربما تتعذر عليه فيتدثر بكساء أو إزار كل ذلك لضبط المشاعر الظاهرة التي هي دهاليز القلب سيما السمع والبصر فإن أكثر الوساوس التي تدخل على القلب فتصده عن وجهته إنما تكون من جهتها وقد بلغه الحق و هو على تلك الصفة فقيل يا أيها المزمل يا أيها المدثر ومنها السكوت فهو يلقح العقل بالحكمة و يسهل الخلوة ويقوى التقوي بالعصمة عن آفات اللسان من الكذب والغيبة والنميمة وافشاء السر والقذف والسب واللعن والهجو والمراء والفخار وغيرهما مما يأتي في باب الكلام فإن اللسان أعصى الأعضاء على الانسان إذ لا تعب في تحريكه ولا مؤنة في اطلاقه ولا مؤنة لمجاله إذ ما موجود أو معدوم معلوم أو مظنون أو متخيل أو موهوم حق أو باطل إلا واللسان يتناوله ويتعرض له باثبات أو نفي فإن كل ما يتناوله العلم يعبر عنه اللسان ولا شئ إلا والعلم يتناوله وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور ولا الأذن إلى غير الأصوات ولا اليد إلى غير الأجسام وهكذا ومن ثم ورد فيه ما ورد ففي الحديث النبوي يعذب الله اللسان بعذاب لا يعذب به شيئا من الجوارح فيقول يا رب عذبتني بعذاب لم تعذب به شيئا فيقال له خرجت منك كلمة فبلغت مشارق الأرض و مغاربها فسفك بها الدم الحرام وانتهك بها الفرج الحرام وانتهب بها المال الحرام وعزتي لأعذبنك بعذاب لم أعذب به شيئا من جوارحك وفيه أنه جاء إليه رجل فقال يا رسول الله أوصني فقال احفظ لسانك يكرر ذلك ثلاثا ثم قال ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وعن أبي عبد الله (ع) ما من يوم إلا وكل عضو من أعضاء الجسد يكفر اللسان يقول نشدتك الله أن نعذب فيك وعنه (ع) لا يزال العبد المؤمن يكتب محسنا ما دام ساكتا فإذا تكلم كتب محسنا أو مسيئا وفي المستفيض المشهور من صمت نجا وقد سبق أنه من علامات الفقه وذلك من أجل أن شهوة النفوس للكلام كثيرة والمحافظة عن آفاته عسيرة فاقتضت الحكمة المبالغة في المنع ليتقدر الأمر على الحد اللائق ويتقيد اللسان عن الكلام إلا بحقه وحينئذ فالكلام أدخل في النجاة من السكوت كما في حديث السجاد (ع) وقد سئل عن الكلام والسكوت أيهما أفضل قال (ع) لكل منهما آفات فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت قيل وكيف ذلك يا بن رسول الله قال لأن الله عز وجل ما بعث الأنبياء و الأوصياء بالسكوت إنما بعثهم بالكلام ولا استحقت الجنة بالسكوت ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت ولا توقيت النار بالسكوت ولا يجتنب سخط الله بالسكوت إنما ذلك كله بالكلام ما كنت لأعدل القمر بالشمس إنك تصف فضل السكوت بالكلام ولست تصف الكلام بالسكوت ومنها الجوع والسهر فهما نعم المطيتان للسالك ينوران القلب بتقليل دمه فيبيض و في بياضه نوره وذوبان شحمه فيرق وفي رقته صفاؤه وضياؤه فيصير كالكوكب الدري والمرآة المجلوة يلوح فيها جمال الحق وعن المسيح (ع) يا معشر الحواريين جوعوا لعل قلوبكم ترى ربكم وعن النبي صلى الله عليه وآله أفضلكم منزلة عند الله أطولكم جوعا وتفكرا وأبغضكم إلى الله كل نؤمة أكول شروب ولم يشبع صلى الله عليه وآله من طعام قط واختار لما خير أن يجوع يوما ويأكل يوما وكان يتهجد من الليل زيادة على الواجب حتى قيل له في ذلك فقال أفلا أكون عبدا شكورا وسيأتي تمام الكلام فيهما والمحمود منهما التوسط كما سبقت الإشارة إليه وإنما بولغ فيهما توقيفا للنفس على حد الاعتدال المطلوب والافراط فيهما شاغل عن القصد لأنه مضعف للمزاج منهك للبدن مسقط للقوة مضر بالأعضاء الرئيسة جدا سيما الدماغ والعافية من الشرايط المرعية في السلوك لأن البدن مركب النفس ومهما ضعف المركب تعسر السير فيكون مذموما كالتفريط و حد الاعتدال في الجوع أن يأكل الطعام وهو يشتهيه ويرفع يده عنه وهو يشتهيه وفي السهر أن لا ينام من الليل أكثر من ثلثيه ولا أقل من ثلثه وما يأتي وما يأتي في باب المنام تحديد لأكثره ومنها نفي الخواطر عن القلب بسد مداخلها ما أمكن فإنها شاغلة له وللبدن ومنها الاقتصار على أكل الحلال وهو ما يحكم بإباحته في ظاهر الشريعة مع ترك ما يريب فإن أكل الحرام يقسي القلب ويرد الدعاء بالخاصية ومنها الذكر الدايم لله سبحانه فعن النبي صلى الله عليه وآله من أكثر ذكر الله عز وجل أحبه الله وفي الحديث القدسي أنا جليس من ذكرني وعن أبي جعفر (ع) أن ذكرنا من ذكر الله وأفضله ما كان في السر كما تظافرت
(٨٧)