إن المطلوب من متاع الدنيا هو العدة على الطاعة بتقوية البدن وتغذيته ورعايته وتعهده بما يصلحه ويعينه كالناقة التي تعلف في طريق الكعبة ليبلغ بها إلى الوجه المقصود وهو (تع) قادر على اعطائها بسبب حاصل من الطلب من المستعد وبدون ذلك السبب بل بسبب آخر يسببه إن شاء فاللايق الانقطاع إليه (تع) ليعطي كيف شاء بأي سبب شاء والثالث أن التعلق بالأسباب والالحاح في السعي إن كان للتشوق إلى الغناء وتحصيل ما يزيد على قدر الضرورة فربما يكون في ذلك فساد حاله إذ الصلاح مستور وارتكاب المشاق فيما لا يدري أنه نفع أو ضرر جهل وسفه وإن كان لقدر الضرورة فقد كفل الله (تع) ذلك في قوله سبحانه وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فإنه ضمان للرزق من غير تعليق كما في آية المغفرة فإن كان لا يثق بذلك فما أقبح من يثق على قول سوقي بعد الاقراض والضيافة ولا يثق على ضمانه (تع) ومثل هذا في غاية البعد عن الفلاح لضعف ايمانه ووهن عقيدته وينبغي أن يبتدئ بتقويم حاله وتقوية ايمانه إلى أن يترقى إلى مرتبة اليقين فيترشح لمقام التوكل والانخراط في سلك المتوكلين إلا أنه سبحانه أبى أن يجري الأشياء إلا بالأسباب فجعل لكل شئ سببا كما ورد في حديث أبي عبد الله (ع) فلا يكاد يقع شئ في هذا العالم إلا بسبب ظاهر أو خفي وفي حديث آخر عنه (ع) أحب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالأسباب فمن تمام الأدب أن يتسببوا بها كما سببها لهم وأمرهم بذلك تحقيقا لحكمته عز وجل في خلق الأسباب والمسببات والارتباط بينهما كما في حديث موسى (ع) أنه مرض فوصف بنو إسرائيل له دواءا فقال لا أتداوى حتى يعافني الله من غير دواء فطالت عليه فأوحى إليه فتداوى فلما برئ أوحى الله إليه أردت أن تبطل حكمتي بتوكلك علي فمن أودع العقاقير منافع الأشياء غيري وقد مضت رواية أخرى في هذا المعنى أو هي هي فتحصيل الأسباب لا ينافي التوكل إذا كانت مباحة لم يسكن إليها بل يكون سكونه إلى الله الذي خلقها وأمر بها مع تجويز أن يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب دون هذه الأسباب وأن يقطع الله هذه الأسباب عن مسبباتها ولم يستقص فيها بل أجمل في الطلب كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء شئ من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله وعن أبي عبد الله (ع) ليكن طلبك المعيشة فوق كسب المضيع ودون طلب الحريص وقال إذا فتحت بابك وبسطت بساطك فقد قضيت ما عليك سواء في ذلك السبب المقطوع به وهو ما جرت سنته (تع) بتوقف المسبب عليه جريانا مطردا لا يتخلف كمد اليد إلى الطعام وتناوله ومضغه وابتلاعه فإن هذا القدر من السعي والحركة مما لا يسوغ الامتناع عنه للجوعان وإن كان متوكلا وانتظاره أن يخلق الله فيه شبعا من دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليه أو يبعث ملكا ليمضغه ويوصله إلى جوفه سفه وجهل بسنة الله وليس من التوكل في شئ نظير أن يطمع في أن يخلق الله له نباتا من غير بذر أو تلد زوجته من غير وقاع بل التوكل هنا أن يكون ساكن القلب معتمدا على فضل الله في خلق الطعام له واقداره عليه والسبب المظنون وهو ما جرت السنة الغالبة فيه بالتوقف وإن احتمل بعيدا حصوله دونه لوقوع التخلف فيه أحيانا كالكسب للتحامي عن ذل السؤال ومنة المخلوقين فإن البطالين من أبغض خلق الله خصوصا من لم يكن مشتغلا في فراغه بعلم أو عبادة وإن أمكن عثوره بغتة على كنز وكذا حمل الزاد للسفر في البوادي المقفرة كما يؤثر من سيرة الأولين من الذين مقامهم فوق التوكل ومثله اتخاذ البضاعة بقدر الكفاية للتاجر بشرط أن يكون الاعتماد في جميع ذلك على فضل الله سبحانه ويعرف ذلك بتسوية حاله عند وجود ذلك الأسباب وفقدها فلو تعوق كسبه أو سرق زاده أو بضاعته كان سكون قلبه واطمئنان نفسه واتكاله على ربه مثل ما كان قبل ذلك علما منه بأن الله لا يقضي على عباده إلا ما هو الأصلح لهم وتوطينا لنفسه على أن غاية الأمر أن يموت جوعا ولا ضير في ذلك فإن الجوع سبب من أسباب الموت الذي لا محيص عنه فيكون راضيا بما ارتضاه الله له وكذا لا ينافيه الادخار في الجملة كما لا ينافي الزهد كما علمت ولا سيما من المضطر وهو من لا يكسب ولا يأخذ من الأيدي فإن استشعر في نفسه اضطرابا يشغل قلبه عن العبادة والذكر والفكر فادخار ما انساق إليه بإرث أو نحوه من الأسباب الاتفاقية أولى له من تفريقه واخراجه من يده ولو في سبيل الله بل لو أمسك ضيعة يكون دخلها وافيا بقدر كفايته وكأن لا يتفرغ قلبه إلا به فذاك له أولى لأن الغرض اصلاح القلب ليتجرد لذكر الله ورب شخص يشغله وجود المال ورب شخص يشغله عدمه والمحذور ما يشغل عن الله وإلا فالدنيا في نفسها ليست محذورة لا وجودها ولا عدمها كما مرت الإشارة إليه وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أصناف الخلق وفيهم التجار والمحترفون وغيرهم فلم يأمر التاجر بترك تجارته ولا المحترف بترك حرفته ولا التارك لهما بالاشتغال بهما بل دعا الكل إلى الله وأرشدهم إلى فوزهم و نجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا إلى الله وعمدة الاشتغال بالله هو القلب فصواب الضعيف الادخار كما أن صواب القوي تركه وأما حده فللسنة للمعيل كما سبق تطييبا لقلوب الضعفاء من عياله والزيادة مبطلة لتوكله لأن أسباب الدخل تكرر بتكرر السنين غالبا ولا قل منها بقدر الأمل من غيره والفضل لقصره فكلما كان أقصر كان أفضل والتحديد للأربعين لا يعرف له وجه وروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله ادخر لعياله قوت سنة ونهى أم أيمن أن تدخر له شيئا لغد ونهى بلالا عن كسرة خبز ادخرها ليفطر
(٨٢)