وللأخذ بصيغة المصدر آداب يأتي ذكرها في باب مفرد في موضعها الأليق من كتاب الزكاة (انش تع) باب الزهد وهو لغة ضد الرغبة كما تقدم ومنه قوله (تع) وكانوا فيه من الزاهدين وعرفا عزوف القلب بضم الفاء أي انصرافه عن رغائب الدنيا رغبة إلى رغائب الآخرة طوعا فههنا قيود آ انصراف القلب فلو صرف يده عنها وقلبه متعلق بها لم يكن زاهدا بل هو متزهد كما سيأتي ولو أنصرف قلبه عنها وهي في يده كان زاهدا فالملاك القلب ولا يعبؤ باليد أو الفعل منصوب بأن المقدرة عطفا على المصدر كما في قوله للبس عباءة وتقر عيني فيكون من تتمة الحد ويكون المعنى عدم الاكتراث بما في اليد من عروض الدنيا كما روي عن أبي عبد الله (ع) ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عز وجل ب أن يكون المنصرف عنه مرغوبا له بالطبع فالمنصرف عما لا يرغب إليه طبعه لا يسمى زاهدا بالنسبة إليه وإن كان مرغوبا لغيره ج أن يكون ذلك رغبة إلى الآخرة فالعازف عن رغائب الدنيا أو بعضها استراحة عن متاعبها أو لغير ذلك من الأغراض الدنيوية كبعض المرتاضين ليس زاهدا د أن يكون بالطوع والاختيار فتارك ما لا قدرة له عليه المأيوس من حصوله لا يسمى زاهدا ومن ثمة قال بعض المشايخ لما قيل له يا زاهد لست زاهدا إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز حيث أقبلت عليه الدنيا فأعرض عنها ثم إن كان المعزوف عنه جميع رغائب الدنيا فزهد مطلق وإن كان بعضها دون بعض فزهد مبعض كالتوبة المبعضة وصاحبه زاهد حريض باعتبارين وهو ينشأ من العلم بأن المرغوب عنه حقير بالنسبة إلى المرغوب إليه كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فمن قوى يقينه بأن ما عند الله باق وأن الآخرة خير وأبقى وأن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقها إلا الصابرون اشتاقت نفسه إلى الآخرة وعزفت عن الدنيا ومن ثمة سماه الله بيعا في قوله عز وجل إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التورية والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ولا يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا القدر وقد يعلم ذلك من لا يزهد إما لضعف يقينه أو لاستيلاء الشهوة عليه في الحال فيغتر بمواعيد الشيطان في التسويف إلى أن يختطفه أحد الخطرين المتقدم بيانهما ويثمر العلم المقصود لذاته وهو النور الإلهي المقذوف في قلب من يريد الله أن يهديه وفي الحديث النبوي من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا وقد تقدم فيه أنه علامة ذلك النور وعبر عنه بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والتهيؤ للموت قبل نزوله وعن أبي عبد الله (ع) من زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه الحديث والفراغ للعبادة فإن المتعلق بالدنيا في شغل شاغل فإن الوجيه متفرق الهم مشغول القلب بصيانة جاهه والمحافظة على سد الأبواب التي يدخل عليها الخلل من جهتها والمميل أكثرهما واشغل قلبا فصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكرا في خصومة الفلاح ومحاسبته وخيانته وخصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود وخصومة أعوان السلاطين في الخراج والاجراء في التقصير في العمارة وصاحب التجارة في خيانة شريكه وكساد سلعته ومماطلة معامليه ومخاطرة قافلته من اللصوص وكذا صاحب الحيوان والزراعة وغيرها من الحرف والصناعات والمحروم منهما محترق الفؤاد بنيران الحسرة والحسد وتنفس الصعداء وسوء الحال والنكد فأين فرصة العبادة أو القلب الفارغ لها وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وعن أبي عبد الله (ع) إنما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة و ادراك حلاوتها كما سبق في التوبة وعنه (ع) أنه حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الايمان حتى تزهد في الدنيا وقال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لا يجد الرجل حلاوة الايمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا وقال عيسى (ع) بحق أقول لكم كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة المرض كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا الحديث وتعظيم قدرها بالاهتمام بها والتشوق إليها و والتهيؤ لها قبل دخول وقتها والقيام بآدابها وكمالاتها واليقين بأن التوفيق لها نعمة مشكورة من الله لأنها تعريض للثواب ومحبة الله بالإضافة إلى الفاعل أو المفعول ففي الحديث النبوي أزهد في الدنيا يحبك الله وعن أبي عبد الله (ع) إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب الله وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حب الله فلم يشتغلوا بغيره فهذه ثمرات الزهد وخصايصه أو الأخيرة خاصة فإنها لا تحصل إلا بدوام الذكر والفكر غالبا الممتنعين مع الشغل بالدنيا فالزهد فيها رفع للمانع والدنيا والآخرة عبارة عن جملة حالات القلب فالقريبة الدانية منها هي الدنيا وهي الحالات التي قبل الموت والمتراخية المتأخرة هي الآخرة وهي الحالات التي بعده لكن جميع الحالات الدانية ليست من الدنيا المذمومة التي يزهد فيها مطلقا بل تنقسم أولا إلى اختيارية وغيرها وغير الاختيارية لا تحمد ولا تذم سواء كان للنفس رغبة إليها كالعافية وسعة الرزق أو عنها كالمحن والشدائد والاختيارية تنقسم أقساما منها أمور حاضرة تميل إليها النفس وتستلذها مما لا منفعة لها بعد الموت سواء كانت لها مضرة كالتلذذ بالمعاصي والمحرمات أم لا كالتنعم بفضول المباحات فإنها لا تستتبع عقابا وإن كانت محرمة عن فضل كثير وهذا من المذموم المزهود فيه و منها أمور عاجلة يؤتى بها في الحياة وتظهر ثمرتها بعد الممات وهي الأعمال الصالحة وما لا بد فيها من العلوم سواء كان للنفس بها لذة أم لا فإن العابد قد يأنس بعبادته ويستلذها بحيث يهجر فيها النوم والنكاح والطعام لأنها أشهى عنده من الجميع ولو منع عنها لكان ذلك أشد النكايات عليه قال بعضهم ما أخاف من الموت إلا لأنه يحول بيني وبين قيام الليل وكذا العالم بعلمه وكان بعضهم إذا انكشف له شئ من العلم ينادي أين أبناء الملوك من هذه اللذات ومنها ما يتوسط بين القسمين وهي الحظوظ العاجلة
(٦٠)