طاعة الله وهو فوق الصبر كما مر وقد تقدم بعض الأخبار فيه والطريق إليه أن يعلم بالنظر أن ما أصابه فهو من جملة ما قضى الله له وكل ما قضى الله له فهو الأصلح بحاله في الحال أو في المال أو فيهما جميعا فإن الله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم كما سبق وإن لم يبلغ علمه بسره كالصبي الذي يحميه والده الحاذق الشفيق عن بعض مشتهياته ويذيقه حر الكي وألم الختان شفقة عليه و استصلاحا لشأنه وأن يعلم أن ما قضى الله لا مدخل للهم والاعتراض والسخط فيه ولا يتبدل القضاء به فإن ما قدر يكون لا محالة وما لم يقدر لم يكن كما دلت عليه أدلة العقل والنقل وحسرة الماضي و تدبير الآتي على وجه ينافي الرضا يذهبان ببركة الوقت وثواب الرضا بلا فائدة وتبقى تبعة السخط عليه وعن أبي جعفر (ع) من رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظم الله أجره ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط الله أجره فإن قلت المتصور في المصائب والشدايد الصبر دون الرضا فإن الرضا بما يخالف الهوى مما لا تقبله العقول ولا نفقه كثيرا مما تقول قلت بل ينبغي أن تتلقاه بالقبول وقد سبقك إلى هذه الشبهة من أتى من ناحية انكار المحبة فأما إذا ثبت تصور الحب لله (تع) واستغراق الهم به جل جلاله فظاهر أن الحب يورث رضا المحب بأفعال الحبيب ويكون ذلك على وجهين أحدهما وهو الأعلى أن يدهشه غلبة الحب عن الإحساس بالألم حتى يجري إليه المؤلم ولا يشعر به كما يعرض هذا الحال للعاشق المستولي على قلبه سلطان الحب فإنه ينبهر به عن الشعور بما يصيبه من الآلام كما أخبر الله عن حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند الاستهتار بمشاهدة جمال يوسف (ع) وعن سمنون المحب قال كان في جيراننا رجل له جارية يحبها غاية الحب فاعتلت الجارية وكان الرجل يعللها فنصب القدر يوما ليصلح لها طعاما وكان يسوط ما في القدر بملعقة في يده إذ أنت الجارية فدهش الرجل وسقطت الملعقة من يده وجعل يسوط القدر بيده حتى تساقطت أصابعه و هو لا يعقل وإذا كان يصدق بهذا وأمثاله في عشق الصور الجميلة بما فيها فالتصديق به في عشق الجمال المطلق لمن أنكشف شئ له أولى خصوصا إذا كان المؤلم من جهة المعشوق فإنه أعذب والرضا به أبرد على الفؤاد وأطيب وقد تقدم كلام سهل ضرب الحبيب لا يوجع وكذا الحريص على تحصيل شئ من المقاصد الجزئية الدنيوية ربما يصيبه أنواع الأذى في طلبه وهو لا يحس بها وانكار ذلك مكابرة وكلما كان المقصود أعظم وعلاقة القلب به أتم كان احتمال المشاق في تحصيله أسهل و القلب عن ادراكها أذهل وهو تعالى غاية المقاصد وأن إلى ربك المنتهى والأصل في ذلك ما سبق في باب الصبر أن استهتار النفس بشئ كائنا ما كان يشغلها عن غيره كائنا ما كان و كلما كان الاستهتار أكثر وأقوى كان الاشتغال أكمل وأوفى والآخر أن يحس به ويدرك شدة ألمه لكن يهون عليه العلم بجزالة الثواب الموعود عليه الشدة لأنه أعظم فيرضى به بل يرغب إليه بعقله وإن كرهه بطبعه كما يتفق للمريض والتاجر المتحملين بالرغبة والطلب شدة الحجامة والسفر مع ادراكها والاحساس بها شوقا إلى ما يأملانه من نعيم العافية وعظيم الربح فهذه حالة الراضي فيما يجري عليه من الألم ثقة بثواب الله فيفوض أمره إلى الله إن الله بصير بالعباد كما يفوض الصبي الموفق أمره إلى الوالد الشفيق متوكلا عليه فيما يسوسه به ويصرفه عنه وإليه يقينا برأفته وكرامته فإن الرضا والتوكل متتاخمان وقد يغلب الحب بحيث لا يلاحظ الثواب الذي يجازي به عليه بل يكون حظ المحب في مراد الحبيب ورضاه لا لمعنى آخر وراءه فيكون مراد حبيبه ورضاه محبوبا عنده مطلوبا لديه وكل ذلك موجود في المشاهدات في حب الخلق وقد تواصفها المتواصفون في نظمهم ونثرهم وهذا أحد الوجوه في قول من قال المجاز قنطرة الحقيقة باب الشكر وهو كغيره من المقامات الدينية ينتظم من علم هو كالأصل وحال هو كالشجرة وعمل هو كالثمرة فالعلم هو عرفان النعمة من المنعم والحال هو الفرح به من غير بطر والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه وهو استعمالها في طاعته ورضاه فمن عرف أن النعم كلها من الله وأنه هو المنعم الحقيقي والوسائط مسخرون من جهته كالآلات وفرح بما يصل إليه منها مع هيئة الخضوع والتواضع وتوصل بها إلى التقرب إليه والتعرض لمراضيه والتجنب عن مساخطه ومناهيه فهو شكور فإن كان فرحه بها من حيث إنها وسيلة له إلى القرب منه (تع) والزلفى لديه وعلامته أن يكون فرحه من الدنيا بما كان مزرعة الآخرة فهذا غاية الشكر ومثال ذلك من أنعم عليه الملك بفرس فربما يكون فرحه بالفرس من حيث إنه مال حصل له مثل ما لو كان قد حصل له هذا المقدار من المال من غير جهة الملك وهذا أدون المراتب وربما يكون فرحه بفرس الملك أعظم من حيث إنها عطية الملك وعلامة العناية به وهذه فوق الأولى والأعلى أن يكون فرحه بها من حيث إنه يسرع بركوبها في تقديم خدمات الملك والسعي في امتثال أوامره ويتسهل له بها مرافقته في الأسفار وإذا خرج للاصطياد ونحوه فيدوم له الاحتظاء بالصحبة والانخراط في سلك المقربين فيترشح بذلك لمرتبة أخرى من الكرامة فوق عطاء الفرس لما يعلمه من سبوغ عطايا الملك وكرم أخلاقه ومن استعمل النعمة في المعصية فقد كفرها نظير ما لو ركب الفرس فأبق بها عن باب الملك المنعم إلى باب عدوه وجدواه استدامة النعمة ففي المشهور بالشكر تدوم النعم واستزادتها فعن أبي عبد الله (ع) من أعطى الشكر أعطي الزيادة قال الله (تع) ولئن شكرتم لأزيدنكم وعنه (ع) ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهرا بلسانه فتم كلامه حتى يؤمر له بالمزيد وهي أما دنيوية كالخلقة السوية الظاهرة والباطنة وتسهيل الملاذ الشهية المباحة وصرف أنواع المفاسد والمضار الممكنة في كل آن وتقريب المصالح والمنافع مما لو عمر الواحد عمر نوح وأراد علاج أدنى شئ منها بسعيه وقوته لتعذر عليه وأما دينية كالاسلام ومعرفة الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم على وجهها وهي الايمان و
(٦٦)