لا يليق بهم التكلم في أمثاله كل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به وأنواع العلوم وإن كانت متفاضلة في الشرف إلا أنه لا ريب أن العلم به تعالى أشرف أنواع العلم إذ شرفه إما بشرف المعلوم أو الغاية أو وثاقة الدليل أو شدة الحاجة وكلها مجتمعة في العلم الإلهي على الوجه الأكمل وإنما اقتصر المصنف على الأول لأنه أقواها ومن ثمة يكون علم الفتوى أشرف من علم الخياطة فإن المعلوم في الأول الأحكام الشرعية وفي الثاني كيفية الوصل بين قطعات الكرباس ليلبس والمتطلع على أسرار الناس الفاحص عنها إن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك أجل وأطيب عنده من علمه بباطن أحوال حايك أو فلاح فإن اطلع على أخص أحوال الوزير وما هو عازم عليه من التدبير في أمور الوزارة فهي أشهى عنده وألذ فإن حصل له الوقوف على أسرار الملك تمدح بذلك وكان شغفه والتذاذه به أعظم لأن الملك أجل من الوزير وأعلى فالمعرفة بحاله أعظم موقعا من المعرفة بأحوال الوزير وإذ ليس في الوجود أشرف من الله (تع) لا جرم كان الاطلاع على أسرار الربوبية هو أعلى أنواع المعارف وألذها وأطيبها حتى أن للعارفين في معرفتهم به عز وجل لذات لو عرضت لهم الجنة في الدنيا بدلا عنها لأبوا أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير وهذه اللذة العظيمة الحاصلة بالعلم أنما هي بالحقيقة بسبب استيلاء العالم على المعلوم وإحاطته به بانكشاف صورته لديه وحضورها عنده كما سبق فكلما كان العلم أقوى وأثبت وانكشاف صورة المعلوم في ذهن العالم أتم وأرسخ كان الالتذاذ أعظم وانبساط النفس أكثر ومن ثمة كان العلم الحاصل من الرؤية ألذ من العلم الحاصل من غيرها لازدياد الكشف فيها بسبب حضور نفس المعلوم عند الحس وصورته عند الذهن فاللذة الزايدة إنما هي باعتبار هذا الانكشاف الزايد من تصور معشوقه في خياله فإنه يلتذ بتصوره لا محالة لكن لا نسبة لهذه اللذة إلى اللذة الحاصلة من مشاهدته رأي العين وحيث إنها أقوى طرق الانكشاف ربما يعبر عن مطلق الانكشاف التام بأي طريق حصل بالرؤية والنظر كما في قوله سبحانه إلى ربها ناظرة وما ورد من بعض الطرق أن رسول الله صلى الله عليه وآله رأى ربه ليلة المعراج ونحو ذلك لتطابق العقل والنقل على امتناع الرؤية الحسية في حقه تعالى لاشتراطها بالوضع والجهة وكثافة المرئي وغير ذلك فالمراد بها أينما أطلقت في كلمات من يعتني بتصحيح كلامهم غاية الانكشاف التام الذي لا يمكن ما فوقه مجازا مقبولا لوجود العلاقة البينة إن ثبت كون اللفظ حقيقة في خصوص البصرية وإلا فمن استعمال المشترك في معناه الآخر حقيقة اعتمادا على وضوح القرنية وهي اشتراط الحسية بما يمتنع في حقه سبحانه وأحسن ما ينكشف به هذا المطلب ما سبقت روايته عن أمير المؤمنين (ع) من قوله لم أعبد ربا لم أره لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقايق الايمان حيث أثبت (ع) الرؤية أولا ثم استدرك ذلك بصرفها من العينية لأنها المتبادر إلى القلبية و سبب المحبة أحد أمور ثلاثة الأول ذات المحبوب بنفسه لا لحظ ينال المحب منه وراء ذاته بل يكون ذاته عين حظه مثل محبة كل أحد لوجوده وبقائه وعافيته ونحو ذلك فإن هذه أمور محبوبة لذواتها لا لغرض آخر ويرجع إليها محبة مثل الزوجة والولد والخادم والمنزل و غير ذلك من توابع الوجود المقصود بها حظوظ النفس فإنها كلها محبوبة بتبع الوجود المحبوب بالذات ومن هذا الباب التحابب المشاهد بين المتحابين يميل كل منهما إلى الآخر ويلتذ بمؤالفته بمجرد التلاقي والمشافهة من دون معرفة سابقة متأكدة ولا سبب ظاهر بل بمحض التناسب الذاتي والموافقة الروحانية كما في الحديث النبوي الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف والثاني الكمال المدرك في المحبوب سواء كان مدركه الحواس الظاهرة أو الباطنة فهو بأنواعه محبوب طبعا سواء كان للمحب منه حظ أم لا ومن ثمة أحب العالم من حيث علمه والصالح كذلك وإذ لم يشاهدهما المحب ولم يستفد من بركاتهما شيئا بل بمجرد سماع نعت عالم في أقصى البلاد أو في الأعصار السالفة أو الاطلاع على مصنف من مصنفاته تميل إليه النفس وتحبه وينطلق اللسان بمحمدته والثناء عليه ويلتذ بذكره ومنه حب الوجه الجميل من حيث جماله فإن حسن التشكل وتناسب الأعضاء غاية الكمال الممكن في الوجه وللنفس في ادراكه لذة عظيمة ولا يظن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة فإن قضاء الشهوة لذة أخرى قد يحب الصور الجميلة لأجلها وادراك الجمال لذيذ في نفسه أيضا فإن غير أولي الإربة من الرجال يلتذون به وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوبان لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منهما حظ سوى نفس الرؤية وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه كان يعجبه الخضرة والماء الجاري والطباع السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النقش المتناسبة الشكل حتى أن الانسان لتنفرج عنه الغموم بالنظر إليها لا لطلب حظ وراء النظر وكذا الكلام في الكلام البليغ والشعر الموزون والصوت الحسن ونحو ذلك والثالث الاحسان سواء كان متعديا إلى المحب أم لا أما الأول فإن الانسان عبيده كما في الحديث المشهور وفيه جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وفي الدعاء النبوي اللهم لا تجعل لفاجر علي يدا فيحبه قلبي إشارة إلى أن حب القلب للحسن إليه اضطرار لا يستطاع دفعه وحيلة لا يمكن تغييرها وهذا إذا حقق رجع إلى السبب الأول فإن المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود أو كماله والطبيب محسن لأنه سبب للعافية والأستاذ لأنه سبب للعلم فمحبتهم من توابع المحبة الذاتية وأما الثاني فإن الموجود في الطباع أن من بلغه خبر ملك أو دستور مثلا
(٨٤)