وتجري في الخيرات والشرور جميعا وبتعدد الجزاء بتعددها خيرا كان كالدخول في المسجد للزيارة فإن من دخل المسجد فقد زار الله كما في الحديث النبوي وفي الحديث القدسي المساجد بيوتي في الأرض فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي وانتظار وقت الصلاة أو كمالها والاعتكاف والانزواء عن الناس تحفظا من آفاتهم والتجرد للذكر عن الشواغل الخارجة وترك الذنوب خشية أو حياء وإصابة أخ مستفاد في الله أو علم مستطرف أو كلمة تدل على هدى أو ترده عن ردى أو رحمة منتظرة كما في حديث أمير المؤمنين (ع) فإن كلا منها طاعة مندوب إليها على حدة وقد تداخل جميعا في فعل واحد ويترتب عليه الثواب الموعود على كل منها وكلها منتهية إلى وجه الله سبحانه فهي مشوبة خالصة من وجهين أو شرا كالقعود فيه للتحدث بالباطل وملاحظة النساء حيث تحرم ومماطلة الغريم والمناظرة للمباهات وهي المفاخرة مع الطرف أو غيره والمرآة للحاضرين فيها أو هي معطوفة على المناظرة أو التحدث من غايات العقود وخيرها يجعل المباح وهو هنا ما يقابل الطاعة والمعصية فيندرج فيه المكروه عبادة كالتطيب لمن يريد المسجد يوم الجمعة أو العيد لإقامة السنة وتعظيم المسجد واليوم ودفع الأذى عن الجليس بالنتن وادخال السرور عليه بالعرف وهو بفتح العين الرايحة طيبة أو كريهة ثم غلبت في الأول وسد باب الغيبة بصيانة نفسه أن يغتاب بالنتن والتفل وجليسه أن يتعرض له بالغيبة بهما ويستحق الإثم وبمثل هذا ورد الأمر في قوله صلى الله عليه وآله يا أبا ذر ليكن لك في كل شئ نية حتى في الأكل والنوم وفي كلمات بعض المشايخ ليكن لك في كل حركة بركة إشارة إلى أن النية تؤثر في المباح وتلحقه بالعبادة وربما تفضله على محضها فالترفه للمولول في جزء من الزمان بنومة أو دعابة مباحة لرد نشاط الطبيعة واقبال القلب على الصلاة في الجزء التالي أفضل منها في ذلك الجزء مع الملال ومن ثم وردت الرخصة في ترك النوافل والاقتصار على الفرايض عند ادبار القلوب وتأخير الصلاة عن أول وقتها من المكروهات المنصوصة ويندب إليه إذا قصد به الوصول إلى المسجد أو فضيلة الجماعة أو الطهارة المائية كما يأتي في محله وروي أن زكريا (ع) كان يعمل في حايط بالطين وكان أجير القوم فقدموا إليه رغيفين إذ كان لا يأكل إلا من كسب يده فدخل عليه قوم فلم يدعهم إلى الطعام حتى فرغ منه فتعجبوا منه لما علموا من سخائه وزهده فقال إني أعمل لقوم بأجرة وقدموا إلي الرغيفين لأتقوى بهما على عملهم فلو أكلتم معي لم يكفكم ولم يكفني وضعفت من عملهم وكما يؤثر خيرها في المباح فيخرجه إلى الطاعة كك يؤثر شرها فيه بل وفي الطاعة أيضا فيخرجهما إلى المعصية فالمباح الذي يجعله النية معصية كالتطيب للتفاخر باظهار الثروة علي غير وجه التحديث بالنعمة والتزين للزنا والطاعة كالعمل المرائي به فإن نية الرياء تلحقه بالمعاصي ولا تؤثر النية في الحرام باخراجه إلى قسميه كما فيهما فلا يباح شرب الخمر لموافقة الإخوان ولا الزنا لإجابة التماس المراود ولو توارد على بعض أفراده قصود فاسدة تضاعف وزره وعظم وباله كما لو قتل أحدا ليتمكن من غصب ماله والزنا بزوجته والفطن إذا أتقن هذه الجملة التفت منه إلى أن تصميم القصد إلى ماله صورة خارجة من المعاصي كالزنا وشرب الخمر من المعاصي كما هو ظاهر قوله (تع) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم وفي تتمة الحديث السابق نية الكافر شر من عمله وفي حديث الرضا (ع) مع المأمون والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه وهو الذي صرح به أمين الاسلام في تفسير قوله (تع) إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قال القول فيما يخطر بالبال من المعاصي إن الله سبحانه لا يؤاخذ به وإنما يؤاخذ بما يعزم عليه الانسان ويعقد قلبه مع امكان التحفظ عنه فيصير من أفعال القلب فيجازيه كما يجازيه بأفعال الجوارح وإنما يجازيه جزاء العزم لا جزاء عين تلك المعصية لأنه لم يباشرها وهذا بخلاف العزم على الطاعة فإن العازم على فعل الطاعة يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة كما جاء في الأخبار أن المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها وهذا من لطائف نعم الله على عباده انتهى وقال السيد في تنزيه الأنبياء إرادة المعصية والعزم عليها معصية وقد تجاوز ذلك قوم حتى قالوا إن العزم على الكبيرة كبيرة وعلى الكفر كفر هذا كلامه ونسبه بعض الفضلاء الذين عاصرناهم إلى أكثر المحدثين والمتكلمين وجمهور العامة وجماعة من أصحابنا وخالف في ذلك قوم فزعموا أن نية المعصية لا تؤثر عقابا ولا ذما ما لم يتلبس بها وادعوا أن ذلك قد ثبت في الأخبار العفو عنه فإن كان نظرهم إلى رواية زرارة عن أحدهما (ع) إن الله جعل لآدم في ذريته من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة وعملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه سيئة ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) قال إن المؤمن ليهم بالحسنة ولا يعملها فتكتب له حسنة فإن هو عملها كتبت له عشر حسنات وأن المؤمن ليهم بالسيئة إن لم يعملها فلا تكتب عليه فهما وما في معناهما غير صريحة في خلاف ما نقلناه عن التفسير مع أن في أسانيدها على طريقتهم قصورا وبالجملة فالقطع بأن العزم غير مؤاخذ عليه كما صرح به بعض المعاصرين مما لا ريب في انتفائه باب الاخلاص وهو كما عرفت تجريد النية شرا أو خيرا عن الشوب بأقسامه فالمتصدق لمحض الرياء مخلص كالمتصدق لمحض ابتغاء وجه الله ثم غلب مطلقه في الثاني بحيث لا ينصرف إلا إليه تغليب الالحاد الذي هو مطلق الميل إلى الميل عن الحق في بعض العقايد وهو يتصور على وجهين متفاضلين فالأعلى إرادة وجهه (تع) أي موافقة إرادته وامتثال أمره شكرا له أو حياءا منه ومهابة أو تعظيما و انقيادا أو حبا أو لكونه أهلا للعبادة كما في حديث أمير المؤمنين (ع) ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك وهي من مواضع الغرور فكثيرا ما يغتر الناوي بنفسه وبنيته فيراها من هذه المرتبة ويعرف صدتها بالتفكر في صفاته (تع) وأفعاله ومداومة السر على المناجاة معه في جميع أحواله فإن فقد هذه العلامات فليوقن أن ليس منها إلا في حديث النفس وخديعة الوسواس كما مر من حال الواطي ثم إرادة نفع الآخرة بجلب الثواب أو الخلاص من العقاب أو كليهما وكيف كان فهو حظ من حظوظ النفس يخرج عن الاخلاص المطلق وإنما يعد اخلاصا بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة ومن ثم حكم كثير من علماء الفريقين ببطلان العبادة بهذا القصد فإن صاحبه إنما قصد الرشوة والبرطيل
(٧٥)