الشئ ويمتنع ذلك إلا بعد تفريغه عن غيره والعبادة هي التذلل والانقياد وفي الحديث من اصغي إلى ناطق فقد عبده فالمتقيد بالدنيا المتذلل لها عابد لها لا لله والعبودية هي تصحيح النسبة إلى المولى بصدق القصد إليه في سلوك طريقه فالمصحح نسبته إلى الدنيا عبد لها وإنما عبد الله من تحرز عن قيد الدنيا واستخلص نفسه لله عز وجل ومن ثم كان كثيرا يخاطب عيسى (ع) أصحابه بقوله يا عبيد الدنيا وعن النبي صلى الله عليه وآله تعس عبد الدنيا وتعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة ثم الصدق في النية كما مرت الإشارة إليه بتمحيضها له عز وجل وهو الاخلاص فالشوب يفوته يقال رمان صادق الحلاوة أي محضها غير مشوب حلاوته بشئ من الحموضة ثم الصدق في العزم وهو جزم قوي على الخير في زمان مستقبل عند التمكن من سببه كالتصدق والعدل إن نال مالا أو ولاية فهذه العزيمة قد يصادفها تصميم ورسوخ وربما يكون فيها نوع ميل وتردد وضعف فالصدق هنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال لفلان شهوة صادقة ويقال هذا المريض شهوته كاذبة مهما لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي ثم الصدق في الوفاء بالعزم فالنفس قد تسمح بالعزم في الحال إذ لا مشقة فيه و المؤنة خفيفة فإذا حققت الحقايق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوة فتبرد النفس وتفتر رغبتها إلى الموعود وتتوانى بالوفاء فتخلف كما قال (تع) ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الشاكرين فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ومدح الموفين بقوله من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ثم الصدق في العمل وهو تسوية السر والعلانية بأن يجتهد حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به لا بأن يترك العمل ولكن بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر وهو غير ما تقدم من ترك الرياء لأن المرائي هو الذي يقصد ذلك لأجل الخلق وهذا ربما لا يقصد ذلك فكم واقف على هيئة الخشوع في صلاته ليس يريد مشاهدة غيره ولكن قلبه غافل عن الصلاة فمن نظر إليه رآه قائما بين يدي الله وهو بالباطن قائم في السوق بين يدي شهوة من شهواته ومن هنا قيل كم طائف يطوف بالبيت وهو بخراسان فهذه أعمال تعرب بلسان الحال عن الباطن اعرابا هو فيه كاذب وكذا الماشي على هدو واطمئنان إن خلا باطنه عن الوقار فهذا غير صادق في عمله وإن لم يكن ملتفتا إلى الخلق ولا مرائيا لهم ولا ينجو من هذا إلا من سوى بين سريرته وعلانيته بل ينبغي للحازم أن يجتهد أن تكون سريرته خيرا من العلانية كما ورد في الدعاء النبوي اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي واجعل علانيتي صالحة ثم الصدق في مقامات الدين من الخوف والرجاء والزهد والتوكل والصبر ونحوها فإن لهذه المقامات مبادي يطلق الاسم بظهورها ثم لها غايات وحقايق والصادق المحقق من نال حقيقتها وبلغ غايتها ولذلك علامات ولوازم غير منفكة إذا شوهدت استدل بها على بلوغ الغاية ودرك الحقيقة في ذلك المقام ففي مقام الخوف مثلا يستدل على الصدق بصفرة الوجه وقلق الباطن وترك المعاصي واللذات وإقامة الطاعات فإذا وجد المراقب هذه العلامات من نفسه فليعلمها صادقة فيما تدعيه من مقام الخوف أي بالغة غايته متجاوزة عن المرتبة التي يشترك فيها آحاد المؤمنين إذ ما من عبد يؤمن بالله إلا ويخافه خوفا يطلق عليه الاسم وقس على هذا معنى الصدق في غيره من المقامات وقد يكون العبد صادقا في بعض المقامات دون بعض وببعض المعاني الست المذكورة دون آخر فيكون صادقا كاذبا من وجهين وقد يكون صادقا في أكثرها فهو صديق بالإضافة إلى من هو أقل صدقا والصديق المطلق من يتصف بالجميع و هي الغاية في الصدق فعن أبي جعفر (ع) إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقا وليس يتخلل بينها وبين النبوة مرتبة كما ينبه عليه قوله سبحانه إنه كان صديقا نبيا وقوله عز شأنه أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء باب التوحيد والتوكل ولكل منهما مراتب مترتبة وأدنى رتب التوحيد محض القول اللساني من غير اعتقاد للقلب عليه وهو من النفاق والعياذ بالله منها سواء كان معتقدا لخلافه أم غافلا خالي الذهن ولا يفيد بحال صاحبه شيئا إلا عصمة الدم والمال في الدنيا فورد في الحديث النبوي إني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وأما في الآخرة فحاله أشد من حال الكفار المكاشفين كما مرت الإشارة إليه ثم التصديق القلبي أما بالتقليد كما للعامي وأما بالاستدلال كما للمتكلم فإنه وإن كان أقوى علما من العامي إلا أنهما متشاركان في أصل المرتبة ولا يتميز عنه المتكلم إلا بالحيلة الدافعة تشويش المبتدعة وهي القدرة على صنعة الجدل والنظر في العقايد على طريق الفلاسفة من ترتيب المقدمات واستنتاج النتايج منها ومراعاة قوانين الميزان في صور الأفكار وهي وإن كانت من محدثات الأمور كما سبق التنبيه عليها إلا أنها صارت اليوم مما لا بد منه ومن ثم يقال بوجوبها كفاية حراسة لقلوب العوام عن تشكيكات المشككين وإنما حدث ذلك بحدوث الشكوك والبدع كما حدثت حاجة الحجاج إلى استيجار البدرقة في الطريق لحدوث ظلم العرب وقطعهم الطريق ولو تركت العرب عداوتهم لم يكن استيجار الحراس من الشروط ويفيد في الآخرة النجاة من الخلود في النار إذ لا يخلد فيها من كان في قلبه مثقال ذرة من الايمان ثم مشاهدة ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق كما في الحديث أن المؤمن ينظر بنور الله وهو الذي يقذفه في قلب من يريد أن يهديه كما مر و هو مقام المقربين وذلك بأن يرى أشياء كثيرة لكن يرى صدور الكل من الله (تع) إذا انكشف له أنه لا فاعل بالحقيقة إلا هو لا أنه كلف نفسه أن تعتقد ذلك كالعامي والمتكلم وهو أول مراتب اليقين ويفيد اعتماد القلب عليه سبحانه وانقطاعه عما سواه وهو التوكل فهو حال حال ينشأ من علم هو ثالث المراتب التوحيد فهي المقصودة بالبيان لأنها التي يبتني عليها التوكل الذي هو من أصول المطهرات في موضوع الكتاب وما عداها فمذكور استطرادا أو من باب المقدمة وهو الوجه في ادراجه في العنوان أيضا وقد تقدم ما هو أبلغ منه فتأمل ثم رؤية عدم ما سواه (تع) فلا يحضر في شهوده غير الواحد ولا يرى الكل من حيث إنه كثير بل من حيث إنه واحد وهي الغاية القصوى في التوحيد وتفيد الاستغراق به والغيبة عن الغير حتى عن نفسه وهو الذي يسميه
(٨٠)