فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يركب الحمار من غير أكاف ويردف الخادم والمرأة ولا يطلب الزايد على الكفاف فإنه من الحرص المذموم إلا للصدقة وورد في كتب الحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وآله كان لا يدخل البيت حتى يتصدق بفاضل النفقة وأنه فضل ذات ليلة عنده مال فبات يتملل ولم يأخذه النوم حتى أخرجه ويسعى في الحاجات المهمة فإنه من الحزم ولا يتقاعد عنها بالكسل فإنه مقرون بالحرمان و يخصف النعل فهو من السنة ويخيط الثوب إذا انفتق ويرفعه إذا بلى وهذه من إتقان المعيشة كما سبق ولا يرفع في بيته عن أن يقطع اللحم بيده ويشتغل بأمر البيت بنفسه مع النساء والخدم فإنها جميعا من السنة ولا يتكلف بالتأنق في المأكل وغيره بالكلفة والمشقة ولا يحبه أن يفعل ذلك له فقد سبق أن الأتقياء براء منه ولا يصيد بنفسه فإن الاصطياد من الصنايع المكروهة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يتبع الصيد ويحبه أن يصاد له فيؤتى به فيأكله ويقبل الهدية من غير ريبة فإنها مفتاح المحبة وفي النبوي تهادوا تحاببوا وفي قبولها ادخال السرور على المؤمن ويكافئ عليها ولو بالثناء عند المعجز عن غيره وقد سبقتا في حديث الحقوق فإن كانت من الأدنى إلى الأعلى اشبهت المعاوضة و جب الثواب أخذا باليقين وفاقا لبعض القدماء ويرد المقرونة بالمنة وإن قلت فإن المنة ضرر لا يحسن تحمله وفي بعض النسخ وورد بالواو بدل الفاء فيحتمل أن تكون الضماير الأفعال التالية كلها راجعة إلى النبي وهذا أولى واعلم أن كثيرا من مقاصد هذا الباب كانت بباب المعاشرة أنسب وقد وجدنا النسخ مضطربة فيها جدا باب السفر السفر سفران سفر بظاهر البدن عن دار إقامته يقطع فيه الفلوات والفيافي إلى دار أخرى مثلها وسفر بسير القلب عن دار علائقه في أسفل السافلين يطوي فيه ملكوت السماوات والأرض إلى دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وسفر الباطن هو الأحمد الأربح فإن الواقف على الحالة التي نشأ عليها في مقر الطبيعة عند الولادة الجامد على ما تلقنه تقليدا من أمه وأبيه لازم درجة القصور وقانع برتبة النقص ومستبدل بجنة عرضها السماوات والأرض مظلمة الحرمان ومطمورة الجهل ذلك هو الخسران المبين ولم في عيوب الناس عيبا كعيب القادرين على الكمال وهو من فروض الأعيان لمن استطاع إليه سبيلا ولن تبلغ غايته إلا بشق الأنفس إذ الزاد الذي يتمتع به فيه التجرد و الخلوص عن الأسباب والاعراض والجوع والصمت والسهر والارتياض وغير ذلك مما تقدم كلها أمور مخالفة لما يهواه البدن والجزء الذي يلي تربيته من النفس وهو المركب الذي لا يتم السير إلا به ومن ثم كلما صادف في أثناء السير غفلة أو فتورا في الجد انقلب على وجهته إلى ما لو فاته كما كما قال القائل هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى وإني وإياها لمختلفان وهذا هو ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وآله في دعائه رب لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا إشارة إلى أن بلوغ الغاية لا يتيسر إلا بدوام التوفيق واتصال مدد العناية الرحمانية فإنهما بمنزلة القائد والسايق لايصال النفوس إلى سعاداتها وفي لوايح الكتاب والسنة ارشادات إلى هذا السفر ومدح أهله وهو السفر الذي لا تعسر فيه المناهل ولا تضيق الخانات والمنازل ولا يتصور التزاحم و التوارد ولا يعقل التحاقد والتحاسد بل تزيد بكثرة المسافرين مغانمه وبركاته وتتضاعف خيراته وفوائده وثمراته وأول مقام للمبتدئ بالسير من منازل النفس هو الأفق المبين فيحط رحله ويقيم ريثما يستريح ويتأهب ويستأنف الحد والاجتهاد للوصول إلى الأفق الأعلى وهو المقام الثاني فإن استأنف العمل وتواصلت إليه الجذبات الإلهية عرجت به إلى المقام الثالث وهو مقام قاب قوسين أو أدنى فمكث ثمة ما شاء الله ثم يتراجع بشطر منه لدلالة الطالبين وهداية المسترشدين والتحديث بما أنعم الله عليه في منزل قربه وما شاهده بعين اليقين من عجايب الصنع وبدايع القدرة وأسرار الملكوت وهو مقام التكميل والبقاء بعد الفناء ولكل من هذه المقامات مبادئ وأوساط وغايات ولم يبلغ غاياتها وخواتمها إلا من ختمت به مرتبة النبوة صلى الله عليه وآله وأما من عداه من الأنبياء والأولياء والملائكة المقربين فهم كما حكى الله عنهم بقوله وما منا إلا له مقام معلوم والمبحوث عنه هنا سفر الظاهر وهو إما طلب أو هرب وكل منهما إما ديني واجب أو مندوب كالحج والعمرة والجهاد والزيارات والتبرك بالأمكنة الشريفة والدعاء فيها وطلب العلم حيث يتعذر في دار الإقامة والتفكر في لطائف أفعاله تعالى الغريبة وعظيم صفاته بمشاهدة آيات الآفاق وتحصيل التجارب لاصلاح الأخلاق فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب قد لا تظهر ذمائمها لاستئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة فإنما السفر يسفر عنها للبعد عن المألوفات والامتحان بمشاق الغربة وملاقات الكبراء للاستفادة من مشاهدة أحوالهم وبركات أنفاسهم فإن فيها من تحريك الرغبة في الاقتداء بهم والتخلق بآدابهم ما ليس في حكاية الناطقين عنهم إذ لسان الحال أفصح من لسان المقال ومن ثم ورد أن النظر إلى وجوه العلماء والصلحاء عبادة والفرار عما يشوش العبادة أو يحرك إلى السوء في الوطن كالجاه والمال حيث لا مخلص عنهما فيه والهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الاسلام من حيث لا يتمكن فيه من إقامة شعاير الشرع إلى حيث يتمكن فورد في التنزيل إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وطلب المال للتعفف عن السئول و التعفف على العيال والجاه لقضاء حوائج المسلمين ودفع الأذى عنهم كما سبق وغير ذلك من المقاصد الراجحة وكل ذلك ينسب إلى الدين بحسب مقصده الغالب كما علم مما مضى وأما دنيوي مباح أو مكروه أو حرام والمقصود بالبيان الأولان أو الأول خاصة فالهرب كالفرار
(٣٣٨)