الكتب العلماء الماضين وتحقيقاتهم وإفاداتهم في المسايل العويصة التي لا يبلغها فهمه فإن ذلك يزيل عنه العجب ويحقر إليه علمه وكذا العابد يتوصل إلى مخالطة من هو أعبد منه فإن لم يجد فليتتبع أحوال العباد الكاملين من الكتب المشتملة عليها والمعجب بنسبه العلوي يتتبع أحوال الأكابر الذين كانوا أقرب نسبا وأمس رحما ويرون أنفسهم مع ما هم فيه من العبادة والاجتهاد على خطر عظيم من غير اتكال على نسبهم القريب وناهيك في ذلك بما تقدم من حديث السجاد والرضا (ع) والجميل ينظر إلى من هو أجمل منه والمميل يرى في عظماء النصارى والهنود من يملك أضعاف ما يملكه هذا المعجب والقوي يرى من الزنوج و الأكراد من هو أقوى منه بمراتب كثيرة فإن فقده فيهم وجده في البهائم البتة فإنه لا يطيق ما يطيقه الثور فضلا عن الجمل والفيل والمستعظم أتباعه وعشيرته إن لم يجد من هو أكمل منه في هذه الخاصة من أهل عصره ففي تتبع أحوال السابقين ما فيه كفاية ومعتبر فإن قلت هذا يجر إلى استحقار النعمة و الفتور عن الشكر قلت المعجب لم ير الخصلة من حيث إنها نعمة فائضة من الله وإنما نظر إليها بالعين العوراء فرآها من حيث إنها صفة قائمة به فهو ليس من أهل الشكر فلا يتجدد محذور في استحقاره النعمة على أن الجمع بين الحقين ليس بمستحيل فإن كل مرتبة من مراتب النعم مكتنفة بمرتبتين تحتانية وفوقانية فالسالك المتهذب إذا كان بصيرا ذا عينين يلاحظ المرتبتين جميعا ويراعى العمل بمقتضى كل واحدة في مقامها الأليق فبحسب المرتبة الفوقانية وملاحظة حال ذويها يجتهد في قلع العجب عن نفسه وبحسب التحتانية وذويها يجتهد في أداء الشكر فلا محذور باب الفقر بفتح الفاء وضمها وهو يطلق تارة بمعنى الاحتياج فيساوق الامكان إذ كل ممكن محتاج إلى الموجد البتة وهذا هو الفقر المطلق ويقابله الغنى المطلق وهو يساوق الوجوب قيل وهو المراد في قوله عز وجل والله الغني وأنتم الفقراء وأخرى على فقد ما يحتاج إليه بالفعل والقوة القريبة من المال وهذا هو الشايع في العرف العام حيث يسمون فاقد المال على الوجهين فقيرا وهو موضوع الباب فالواجد لا يسمى فقيرا وكذا فاقد ماله القدرة عليه بالكسب أو لا حاجة له إليه ويتصور للفاقد في فقده أحوال يخص في كل منها باسم فإن كان ما فقده ضروريا له كالخبز للجائع والثوب للعاري فمضطر سواء كان له رغبة في الطلب أم لا وقلما ينفك عن الرغبة وهذا مما لا بحث عنه وقد وسع الله عليه في الجملة مهما كان غير باغ ولا عاد ولا متجانف لإثم وأن لا يكن المفقود ضروريا فإن فرح بحالته تلك وكره المال الزايد على ما تندفع به الضرورة لو أتاه و تأذى منه وهرب من قبوله محترزا من شرة وشغله فزاهد من الزهد وهو ضد الرغبة وإن لم يكره كراهة يتأذى به ولم يرغب رغبة يفرح بحصوله ولو أتاه عفوا رضي به فراض وإن كان له رغبة فيه لكنها ضعيفة لا تنهضه للسعي والاشتغال بالتحصيل فقعد وترك الطلب مع أن الوجود عنده أحب ولو أتاه صفوا أخذه وفرح به فقانع إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة وإن رغب فيه رغبة قوية تحثه على الطلب مهما وجد إليه سبيلا ولو بشق الأنفس فإن شغلته به وسعى للتحصيل فحريص من الحرص من الشق لأنه يشق قناع الحيا أو هو أن يأخذ نصيبه ويطمع في نصيب غيره وإن عجز عن الطلب وتركه للعجز فحريص أيضا كالساعي ومجرد قعوده عنه عجز إلا يسلب عنه هذا الاسم المذموم فهذه خمسة أحوال للفاقد في فقده مترتبة والأعلى الزهد وأعلى منه تسوية الوجود و العدم عنده فإن وجده لم يفرح ولم يتأذ وإن فقده كذلك والفرق بينه وبين الرضا أن الراضي وإن كان غير كاره لحصوله ولا راغبا إليه لكن ربما يتصور أن يتعلق به قلبه بعد الحصول ويحصل له الأنس به والاخلاد إليه فإن ذلك غير مناف لمرتبة الرضا بخلاف الأخير فإنه غير مقيد به قبل الحصول وبعده فلو كانت الدنيا بحذافيرها له لا يتفاوت حاله بين بقائها وذهابها ولا يشتغل قلبه بها بوجه وأما ترجيحه على الزهد فلأن الزاهد متعلق للقلب بكراهته والتجرح عنه ومشتغل بذلك عن الله ومثاله مثال الرقيب الحاضر في مجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه و استثقاله وكراهة حضوره فهو في حالة اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة المعشوق ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه وكما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة فلا يجتمع أيضا بغض وحب في حالة واحدة فالزاهد المشغول ببغض الدنيا محجوب عن الله كالمشغول بحبها إلا أن الأخير سالك في طريق البعد والأول في طريق القرب فيرجى له الوصول كرجلين في طريق الكعبة أحدهما مستقبل والآخر مستدبر فإنهما سيان في البعد عنها بحسب الحال إلا أن المستقبل أحسن حالا من المستدبر بحسب العاقبة المرجوة لكن الواصل المعتكف في الكعبة أحسن حالا منه لبلوغه المقصد واستغنائه عن الاستقبال والاستدبار وهذا الحال لا يكاد يوجد إلا في الأوحدي من الناس من ذوي النفوس القوية الموقنة المطمئنة المتخلقة بأخلاق الله فهو حقيق بأن يسمى استغناء إذ لا يعرف له اسم مخصوص في الشرع وصاحبه مستغنيا فإنه قريب من الغنى المطلق لاستغنائه عن حصول المال وبقائه وذهابه وعدم تأذيه بشئ منها وإنما اختير له اسم الاستغناء دون الغني تأدبا لاختصاص مطلقه حقيقة به (تع) كما نبه عليه الحصر المتقدم وشيوع اطلاقه العرفي على اليسار فيسمى الموسر غنيا مع أنه أكثر الناس حاجة وفي تغيير الأسلوب إيماء إلى مغايرة حال الاستغناء للأحوال الخمسة السابقة من حيث اندراجها تحت الفقر وصحة اطلاق اسم الفقير على ذويها بخلافه فإن تسمية المستغني فقيرا لا وجه له بل بالمعنى المذكور بل إن سمي فقيرا فبمعنى آخر وهو معرفته بكونه محتاجا إلى الله في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باطلاق اسم العبد من الغافلين وإن كان الاسم عاما للخلق واسم الفقير مشترك بين المعنيين والأخير هو المراد بما ورد في فضل الفقر من قوله صلى الله عليه وآله الفقر فخري وبه افتخر على سائر الأنبياء فإن اتصاله بالحضرة الربوبية
(٥٧)