فالأورع كما تقدم هذا إن علم الترجيح بينهما وإن جهل ذلك ولم يكن له طريق إليه أو تساووا تخير في الرجوع إلى أيهما شاء ويجوز له الرجوع في بعض مسائله إلى أحدهما وفي غيرها إلى الآخر وهل يجوز له الرجوع فيها بعينها إليه تارة أخرى قولان وإن لم يجد في البلد من يرجع إليه سافر إليه بنفسه وجوبا أينما كان وإن بعد ما لم ينته إلى الحرج والعسر أو استناب من يصل إليه فيسأله عن مسئلته أو كتب بها إليه وعول على ما يأتيه من الجواب مع الوثوق كما هو المعلوم من حال أصحاب الأئمة (ع) من دون نكير وينبغي للمستفتى أن يغتنم صحبة المفتي ويتأدب معه ويبجله في خطابه وجوابه كما مضى في المقدمة في حقوق العلم باب القضاء ممدودا وهو الحكم بين الناس وإنما يسوغ لمن له الفتيا من الإمام ونائبه الخاص والعام لا غيرهم وأمره أجل منها فإنه أدخل في النظام وأشد خطرا فورد عن أمير المؤمنين (ع) في كلامه لشريح بن عبد الله الذي استقضاه عمر على الكوفة وعاش قاضيا فيها إلى زمن الحجاج لم يعطل إلا سنتين عاف فيهما القضاء في فتنة ابن الزبير قد جلست مجلسا لا يجلس فيه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي وعن أبي عبد الله (ع) اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل بين المسلمين للنبي أو وصي نبي فإن قلت النائب الخاص أو العام من أي هذه الأقسام قلت من القسم الثاني لأن العلماء ورثة الأنبياء وقد تقدم دعاؤه صلى الله عليه لخلفائه وهم الذين يروون حديثه ويستنون بسنته وأما القسم الثالث فهم قضاة السوء الذين يحكمون بآرائهم مثل قضاة العامة أو بفتاوي غيرهم تقليدا مثل أكثر قضاة هذا الزمان من الجهلة الذين لا يحسنون التقليد فضلا عن الاجتهاد وجميع ما ورد في النهي عن القضاء و مذمة القضاء مصروف إليهم وإذا وجد بالوصف المعتبر وجب على الناس الترافع إليه ووجب عليه النظر في أمورهم فإن انحصر في واحد تعين وإن تعدد فالوجوب كفائي وإن روفع إليهما في قضية واحدة فإن اتفقا في الحكم فذاك وإلا فالحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر كما سبق في المقبولة ويجب عليه التسوية بين الخصمين في العدل في الحكم بلا خلاف وهل تجب في السلم والمجلس والنظر والانصات والكلام وطلاقة الوجه وسائر أنواع الاكرام إذا كانا متساويين في الدين أم تستحب قولان أشهرهما وأحوطهما الأول فورد في الحديث النبوي من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفعن صوته على أحدهما إلا ويرفع على الآخر أما التسوية في الميل القلبي فلا تجب قطعا ويحرم على القاضي أخذ الرشوة وعلى المستفتي بذلها إلا إذا توقف حقه عليه وبها فسر السحت كما مضى وهي الجعالة على الحكم من أحد المتخاصمين على التعيين أما لو شرط عليهما أو على أحدهما كالمحكوم له أو من يتوجه عليه اليمين أو تندفع عنه جعلا ليفصل الحكومة بينهما من غير اعتبار الحكم لأحدهما بخصوصه بل من اتفق له الحكم منهما على الوجه المعتبر جاز عند بعضهم إذ ليس فيه تهمة ولا ظهور غرض وفيه اشكال ويحرم عليه قبول الهدية في مواقع الريبة وفي حديث النبوي هدايا العمال سحت وفيه أن القوم سيفتنون بأموالهم فيستحلون الخمر بالنبيذ والربا بالبيع والسحت بالهدية وتلقين أحدهما حجته كأن يدعى عليه قرض فيقدم إليه أن يجيب بالانكار دون الايفاء لئلا يصير مقرا ويتعسر عليه الاثبات أو ما فيه ضرر على الآخر كان يعلمه دعوى صحيحة لم يكن من شأنه الاتيان بها وإنما حرم ذلك لأنه يفتح باب التنازع وقد نصب لسده ولقد كان يمكن الغنى بأحد المتعاطفين عن الآخر ويستحب له قبل الحكم ترغيبهما في الصلح لأنه خير فإن أبيا إلا النزاع وكان الحكم واضحا لزم القضاء وإن أشكل آخر حتى يتضح ويكره أن يشفع في اسقاط حق بعد ثبوته أو ابطاله قبله والمستحب من الترغيب في الصلح ما لا يستلزم شيئا منهما أو يقال باستثناء الصلح خاصة مما يحكم عليه بالكراهة وعلى هذا كان تأخيره أجود أو المستحب نصب من يتوسط الاصلاح والمكروه شفاعته بنفسه أو يتخذ حاجبا لا يدخل عليه إلا بإذنه وقت القضاء وقيل بتحريمه لما فيه من تعطيل الحقوق وتأخير الحوائج ولما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قال من ولى شيئا من أموال الناس فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره وفي دلالته على المطلوب نظرا ويقضي مع اشتغال القلب بنعاس أو هم وهو الحزن الذي لا يعرف سببه أو غم وهو ما يعرف سببه أو غضب أو جوع أو مرض أو مدافعة لخصيم أو الأخبثين أو نحو ذلك ولقد كان عطف الفعلين بالواو أجود وإذا حضر الخصم مجلس القضاء والتمس احضار خصمه فإن كان قريبا لا يشق احضاره أحضره سواء حرر دعواه أم لا وإن كان بعيدا أمره أولا بتحرير الدعوى فإن وجدها فاسدة كما لو كانت من ثمن خمرا وخنزيرا وربا أو مهر بغي لم يلتفت إليها وإن وجدها صحيحة أحضره فإذا حضرا فإن سكتا جاز أن يسكت عنهما لأن الحق لهما فلا يطالبان به والأولى أن يأمر المدعي بالكلام وبعد تحرير دعوى الصحيحة بمحضر المدعى عليه فإن بادر بالجواب فذاك وإن سكت فإن كان سكوته لدهش أو غباوة توصل إلى ايناسه برفق إلى أن يسكن ويفهم وإن كان لآفة من صمم أو خرس أو عجمة توصل إلى تفهيمه والاستفهام عنه ولو بالإشارة المفيدة وإن كان لعناد ومشاقة ففي إلزامه به أو توقف ذلك على التماس المدعي قولان اقتصر في المفاتيح على نقلهما ومتى ألزم المدعى عليه بالجواب فإن أصر واستمر قيل يجلس حتى يبين وقيل لا جلس بل يضرب ويبالغ في إهانته حتى يجيب وقيل يقول له الحاكم ثلاثا إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا ورددت اليمين على خصمك ومتى أجاب فليصغ له حتى ينهى وليس له أن يداخله في كلامه أو يؤله ولا أن يوقف عزمه عن الاقرار إذا ظهرت منه مخايلة إلا في حقه (تع) لابتنائها على التخفيف كما مر فإن أقر بالدعوى وكان من أهله حكم عليه فورا أو بعد التماس المقر له وإن أنكر فعلى
(٢٠٦)